للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فلمَّا أنْ أدرَكَ الحَجرَ مُستقرًّا مكانَه صَبَّ عليه جَمَّ غضَبِه حيث صَدَر عن الحَجر فِعْلُ مَن يَعقِل (١)! فانتقلَ عنده مِن حُكمِ الجَمادِ إلى حُكمِ الحيوان، ولذلك نَادَاه قبلُ، إذْ المُتَحرِّك يُمكن أن يَسْمَع ويُجيب، فلمَّا لم يُعْطِه ما أراد ضَرَبَه بعفويَّة (٢)، فإنَّ مَخلوقًا إذا أمكنَ أن يمشيَ، أمْكنَ أن يُحسَّ بالضَّرْبِ ويَخشاه (٣)!

هذا؛ ولا أُحيل أن يكون ما صَدَر منه عليه السلام مِن ضَربٍ للحجر مُجرَّد تنَفيسٍ جِبِليٍّ لا شعوريٍّ عن غَضبِه، كما يجري مثلُه لكثيرٍ مِن النَّاس ذَوي المَزاجِ الحادِّ حين تَعْطُب بعضُ آلاتِهم بعد إياسٍ مِن تَطويعِها، فتراهم يَضرِبون الآلةَ أو يركلونها بدافعِ الغَضَبِ والضَّجرِ! ليس ذلك إلَّا ردَّة فِعلٍ طبيعيَّة، مَدفوعين بفطرةِ الإنسانِ للانتقامِ مِمَّن آذاه، بغَضِّ النَّظر عن طبيعةِ هذا المُؤْذِي.

ثمَّ إنَّ ضربَ موسى عليه السلام للحَجَرِ كان لأجلِ فعلِ الحَجَر، «فلم يَدْرِ موسى ولا عَلِم مُرادَ الله تعالى بذلك، وأنَّه ممَّا يُبَرِّئه الله تعالى به» (٤)، حيث كان جَرْيُ الحَجَرِ معجزةً ظاهرةً له على قومِه، وكذا في حُصولِ النَّدْبِ فيه مِن ضَربِه بعصاه، كأنَّه أَثَرُ الجَرحِ إذا لم يَرتفِع عن الجِلْد (٥)؛ والمُراد من ذلك أنْ يقف حتَّى ينظُرَ إليه جماعةٌ مِن بني إسرائيل، ثمَّ يُشاهدوه حَجَرًا جَمادًا، فيعلموا أنَّما هي آيةٌ رادِعةٌ، عمَّا اختلقوه على نبيِّهم.

يقول العِراقيُّ: «هذه معجزة لموسى عليه السلام -يعني النَّدْبَ في الحَجر- بعد انقضاءِ المُرادِ مِن المعجزةِ الأولى، وهو فِرار الحَجَر بثوبِه، وإلجاؤُه إلى الخروجِ على بني إسرائيل على تلك الهيئةِ، وكأنَّ المعنى في هذه المعجزة أمور:

أحدُها: بقاءُ هذا الأثَر في الحَجَر على طولِ الزَّمان، فيُتذَكَّر به هذه الواقعة، ويُعلَم به فضلُ موسى عليه السلام وبراءته ممَّا اختلقوا عليه.


(١) «المُفهم» لأبي العبَّاس القرطبي (١٩/ ١٠٣).
(٢) «كوثر المعاني الدراري» للخضر الشنقيطي (٥/ ٤٦٠).
(٣) «شرح صحيح البخاري» لابن بطال (١/ ٣٩٤).
(٤) «الإفصاح» لابن هبيرة (٧/ ٢١٠).
(٥) «إكمال المعلم» (٧/ ٣٥٠).

<<  <  ج: ص:  >  >>