للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ومثلُ ما وقع مِن نبيِّ الله سليمان عليه السلام مَحجوبٌ عَنَّا عِلمُ حقيقتِه، فليس لنا غيرُ التَّسليمِ؛ والَّذي أوقعَ المُعترضَ في تلك المَغلطة، أنَّه استحضَرَ عند قراءته لهذا الحديث الوقتَ الَّذي يأخذُه عادةً في الوَطءِ!

وأمَّا دعوى المعترضِ في الشُّبهةِ الثَّالثة نبذَ سليمان عليه السلام لتعليقِ عزمِه بالمشيئةِ الإلهيَّة:

فليس من شأنِ هذا المقامِ الرَّفيعِ فعلُ ذلك! حاشاه عليه السلام مِن هذا الظَّنِ السَّقيمِ؛ كلُّ ما في الأمرِ أنَّ تذكيرَ المَلَكِ له بقولِ: إن شاء الله «تَذكيرٌ له بأن يَقولَ ذلك بلسانِه، لا أنَّه عليه السلام غَفَل عن التَّفويضِ إلى الله تعالى بقلبِه» (١)؛ فهذا ثابتٌ في قلبِه، ولكن اكتفَى عليه السلام بما قال تمنِّيًا على الله بعد سُؤالِه له أن يَفعل، فكأنَّه غَلَب عليه الرَّجاءُ في ربِّه لِما رَأى أنَّه نبيُّه قصَدَ بفعلِه نُصرةَ دينِه وأمرَ الآخرةَ، فغلَّب هذا الظَّن تَأوُّلًا، فتساهَل لأجله أن يقول ذلك لفظًا، حتَّى نسِيَ بعدُ أن يُجرِيَ على لسانِه ما ذُكِّر به مِن لفظِ المشيئةِ، لشيءٍ عَرَضَ له عليه السلام (٢).

نظير هذا: ما اتَّفق لنبيِّنا صلى الله عليه وسلم حين سُئِل عن أصحابِ الكهفِ، فوَعَد بالجوابِ غدًا جزمًا، فلما له من مَقامٍ عنه الله تعالى، وصدقِ وعدِه في تصديقِه وإظهارِ كَلِمتِه، والمَقام مقامُ إثبات نُبوَّةٍ تستدعي النُّصرة له: ذَهَل عن تعليقِ وعدِه بمشيئةِ الله لفظًا، وإن كان مفوِّضًا ذلك إلى ربِّه قَلْبًا؛ فتَأَخَرَّ الوَحيُ عنه؛ حتَّى أعلمه ربُّه وأدَّبَه بقولِه: {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً (٢٣) إِلَاّ أَن يَشَاءَ اللَّهُ} [الكهف: ٢٣ - ٢٤].

وهذا لعُلوِّ مَناصبِ الأنبياء، ومَقامِ الاقتداءِ بهم، فإنَّهم يُعاتَبون على ما لا يُعاتَب عليه غيرهم (٣).

فاللَّهم صَلِّ على هذين النَّبِيَّيْن ما طَرَق في السَّماءِ طارق، وعلى سائرِ أنبيائِك المُؤيَّدِين بعَجيبِ الخوارِق.


(١) «المفهم» لأبي العبَّاس القرطبي (١٥/ ٨٢).
(٢) انظر «فتح الباري» لابن حجر (٦/ ٤٦١).
(٣) انظر «كشف المشكل» لابن الجوزي (٣/ ٤٤٦)، و «المفهم» لأبي العبَّاس القرطبي (١٥/ ٨٢).

<<  <  ج: ص:  >  >>