للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} [هود: ٨٠]، فأين في الآيةِ ما يَدلُّ صراحةً على أنَّ لوطًا عليه السلام قد نَسِي ربَّه، أو أنَّه سها عن الاستعانة به سبحانه في ذلك الموقف الحَريجِ (١)؟!

غاية ما في الآية أنَّ لوطًا عليه السلام تمنَّى لو كان ذا ذروةٍ من عشيرتِه ليَأوي إليها، لأنَّ «قومَه لم يكُن فيهم أحَدٌ يَجتمع معه في نَسَبِه، لأنَّهم مِن سَدوم (٢) وهي مِن الشَّام، وكان أصلُ إبراهيم ولوط مِن العراق؛ فلمَّا هاجَر إبراهيم إلى الشَّام، هاجر معه لوط، فبعث الله لوطًا إلى أهل سَدوم، فقال: لو أنَّ لي مَنَعة وأقاربَ وعشيرة، لكنتُ أستنصرُ بهم عليكم، ليدفعوا عن ضِيفاني» (٣).

فهذا التَّمني نفسه منه عليه السلام لا حَرج فيه؛ إنَّما الَّذي أراده النَّبي صلى الله عليه وسلم رفع التَّثريبِ عن لوطٍ في قولِه ذاك، إذْ كان في نصرٍ مِن ملائكةِ ربِّه من غيرِ أن يشعُر بذلك؛ على الصَّحيح مِن أقوال أهل العلم.

يقول ابن عبَّاس: «أغلقَ لوطٌ بابَه والملائكة معه في الدَّار، وهو يناظرُهم ويناشدُهم مِن وراءِ الباب، وهم يُعالجون تسوُّرَ الجِدار، فلمَّا رَأَت الملائكة ما يَلقى لوط بسببِهم: قالوا يا لوط إنَّ ركنَك لشديد، {إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَن يَصِلُوا إِلَيْكَ} [هود: ٨١]، فافتحْ البابَ ودَعْنا وإيَّاهم .. » (٤).

وقد قرَّرَ ابن حزمٍ هذا المعنى أيضًا بأحسنِ تَقرير، في قولِه:

«إنَّ لوطًا عليه السلام إنَّما أراد مَنَعةً عاجلةً يمنع بها قومَه ممَّا هم عليه مِن الفواحش، مِن قرابةٍ أو عشيرةٍ أو أتباعٍ مؤمنين، وما جهِل قطُّ لوطٌ عليه السلام أنَّه يأوي


(١) وإن قال بهذا المعنى بعض أهل العلم، كابن قتيبة في «تأويل مختلف الحديث» (ص/١٦٠)، والقاضي عياض في «إكمال المعلم» (١/ ٤٦٦)، وأبو محمد البغوي في «شرح السنة» (١/ ١١٧)، وجوَّزه النووي في «شرح مسلم» (٢/ ٥٤٣)، ورَّجحه ابن حجر في «الفتح» (٦/ ٤١٥)، وهؤلاء لا يعنون أن لوطًا كان يأوي إلى غير الله تعالى، ولكن الذي انتقده رسول الله صلى الله عليه وسلم واعتبره في النُّطق: أنَّه أحبَّ للوطٍ أن يأتي بنطقٍ لا يتناول هذا الاحتمال؛ لأنه كان يأوي إلى ركن شديد، وهو الله عز وجل، فليس للطَّاعنين في الحديث مستمسك ولو على هذا المعنى ولله الحمد.
(٢) سَدوم: هي سَرْمين، بلدة مِن أعمال حَلب، معروفة عامرة، ذكره الميداني في «مجمع الأمثال» (١/ ١٩٠)، وانظر «معجم البلدان» (٣/ ٢٠٠).
(٣) «فتح الباري» لابن حجر (٦/ ٤١٥).
(٤) أخرجه بنحوه أبو حاتم في «التفسير» (٦/ ٢٠٦٤)، وانظر «معالم التنزيل» للبغوي (٤/ ١٩٢).

<<  <  ج: ص:  >  >>