للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فإن قيل: إذا كان النَّبي صلى الله عليه وسلم ذَكر هذا الكلام على جِهة المدحِ ليوسف، فما باله هو صلى الله عليه وسلم يذهب بنفسِه عن حالةٍ قد مَدَح بها غيره؟ (١)

قُلنا: هذه شُبهة قد كفانا ابن عطيَّةٍ كشفها بأحسن ما يكون الكشفُ والبيان، فقال: «الوجهُ في ذلك: أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم إنَّما أخَذ لنفسِه وجهًا آخرَ مِن الرَّأي له جهةٌ أيضًا مِن الجودة، أي: لو كنتُ أنا لبادرتُ بالخروجِ، ثمَّ حاولتُ بيانَ عذري بعد ذلك، وذلك أنَّ هذه القَصص والنَّوازل إنَّما هي مُعرضة ليقتدي النَّاس بها يوم القيامة، فأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم حملَ النَّاس على الأحزمِ مِن الأمور.

وذلك أنَّ المتعمِّق في مثل هذه النَّازلة، التَّاركُ فرصةَ الخروجِ من مثل ذلك السِّجن، ربمَّا تنتج له مِن ذلك البقاءُ في سجِنه، وانصرفت نفسُ مخرجِه عنه، وإن كان يوسف عليه السلام أَمِن مِن ذلك بعلمِه مِن الله، فغيره مِن النَّاس لا يأمن ذلك، فالحالة الَّتي ذَهب النَّبي صلى الله عليه وسلم بنفسِه إليها حالةُ حزمٍ ومدحٍ، وما فَعَله يوسف عليه السلام صبرٌ عظيمٌ وجَلَد» (٢).

فإن قيل أيضًا: إذا تقرَّر أنَّ الحديث سيقَ بيانًا لفضلِ هؤلاء الأنبياءِ، والدَّفع عنهم ما قد يُتوَّهم فيهم مِن الباطِل، فما وجهُ تناسب هذا المدحِ منه صلى الله عليه وسلم ليوسف مع هذا المقصد الكليِّ للحديث؟

والجواب: أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم مدَحَه على الأناةِ والتَّصبُّر على وجهِ الخصوص، «وكان في طيِّ هذه المدحةِ بالأناةِ والتثبُّت: تنزيهُه وتبرئتُه ممَّا لعلَّه يسبِق إلى الوهم مِن أنَّه هَمَّ بزُلِيخا -امرأةِ العزيزِ- هَمًّا يُؤاخَذ به، لأنَّه إذا صَبر وتثبَّت فيما له أن لا يصبِرَ فيه -وهو الخروج مِن السِّجن- مع أنَّ الدَّواعي متوافرةٌ على الخروج منه، فلَأن يصبِرَ فيما عليه أن يصبِر فيه مِن الهمِّ أَوْلى وأجدر! والله أعلم» (٣).


(١) قاله الموسوي في كتابه «أبو هريرة» (ص/٩٨ - ٩٩)، وتبعه السُّبحاني في «الحديث النبوي بين الدراية والرواية» (ص/٣٥٠).
(٢) «المحرَّر الوجيز» لابن عطية (٣/ ٢٥٢)، وأقرَّه القرطبي في «تفسيره» (٩/ ٢٠٧).
(٣) «الانتصاف فيما تضمَّنه الكشَّاف» لابن المنيِّر الإسكندري (٢/ ٤٧٧، حاشية الكشَّاف).

<<  <  ج: ص:  >  >>