للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ولا يُخالف هذا ما جاء في الرِّواية الأخرى لهذا الحديث بلفظ: «يغفِرُ الله للُوطٍ .. » (١) -وعليها مُعوَّل مَن قال أنَّ لوطًا أَتَى بخلافِ الأوْلى (٢) - فإنَّ هذه الرِّواية بالمغفرةِ له -مع كونِ رُواةِ التَّرحُّم أكثر مِن رُواتِها، فتكون أرجح- هي هنا بمعنَى: رفعِ المَلامة عنه عليه السلام، وهذا سائغٌ في عُرف العرب، أو تكون مجرَّد دعاءٍ مِن المتكلِّم لا مفهومَ له (٣).

وأمَّا جواب المخالفِ في المعارضة الثَّالثة: دعواه تفضيلَ الحديثِ ليوسف عليه السلام على نبيِّنا صلى الله عليه وسلم في الصَّبر والحكمة:

فإنَّما أثنى النَّبي صلى الله عليه وسلم على يوسف عليه السلام بحُسنِ الصَّبرِ وقوَّة العَزم، وهذا منه صلى الله عليه وسلم غايةٌ في الأدبِ، وإحسان في إظهارِ منزلةِ يوسف عليه السلام في التَّثبت والصَّبر؛ وما أخبرَ به صلى الله عليه وسلم عن نفسِه هو منه على طريقِ التَّواضع لأخيه يوسف (٤)، والتَّواضع لا يُصغِّر الأكبرَ ولا يضع الأرفعَ! ولا يُبطل لذي حقٍّ حقًّا! ولكنَّه يوجب لصاحبِه فضلًا، ويكسبه جَلالًا وقدرًا (٥).

وفي ما قاله النَّبي صلى الله عليه وسلم في حقِّ يوسف عليه السلام إشعارٌ بأنَّه قد خُصَّ في تلك النَّازلة تحديدًا بمزيَّةِ صَبرٍ، ومَزيَّةِ جزالةٍ، ومَرتبةِ تثبيتٍ (٦)، فقال النَّبي صلى الله عليه وسلم: أنَّه لو كان امتُحِن هو بهذا أو غيره مِن طولِ السِّجن، لكان الطَّبيعيُّ والأحبُّ إليه أن يَتَخلَّص مِن ذلك لأوَّلِ داعٍ، للنَّجاةِ مِن عذابِه وحبسِه، ولكان منه هذا أَخذًا بالحزمِ في الأمرِ؛ مخافةَ حوادث تَطوي، وانشغالِ الملِك بضرورةٍ، فينساه كما نسيَه مِن قبلُ ويشتغل عنه، فيبقى في سجنِه كما كان حاله معه! (٧)


(١) أخرجه البخاري في (ك: أحاديث الأنبياء، باب: {وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ}، رقم: ٣٣٧٥)، ومسلم في (ك: الفضائل، باب: من فضائل إبراهيم الخليل صلى الله عليه وسلم، رقم: ١٥٣).
(٢) انظر «المُفهم» للقرطبي (٢٣/ ١٤٢)، و «الكوثر الجاري» للكوراني (٦/ ٢٧٠).
(٣) انظر مثالًا لكِلا التَّأويليَن في «فتح الباري» لابن حجر (٧/ ٣٩).
(٤) انظر «إكمال المعلم» (٧/ ٣٤٣).
(٥) «أعلام الحديث» للخطَّابي (٣/ ١٥٤٧).
(٦) «عارضة الأحوذي» (١/ ٣٥٨).
(٧) «إكمال المعلم» (٧/ ٣٤٣).

<<  <  ج: ص:  >  >>