للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فمِن هنا أوتي المُعترض، مِن ظنِّه أنَّ المعنى هو ما تَبادر إلى ذهنه مِن السُّموم الكيمائيَّة المُستحدثةِ الفتَّاكة في الحين! كمادَّة (البوتولِينوم)، أو غاز السَّارين مثلًا، وهذا معنى ما أبعدَ أن يقصِده النَّبي صلى الله عليه وسلم مِن الحديث، فإنَّ هذا النَّوع قَلَّ أن يَتعرَّض له النَّاس في الجملة، وهو في حكم النَّادر جدًّا، ومُحال أن يقصِد بوصيَّتِه أمَّته شيئًا ندُر أن يقع فيهم.

ولذلك وجدنا أنَّ السِّحرَ لمَّا كان مُنتشرًا في النَّاس، وهم مُبتلَون به منذ القديم، أوصى النَّبي صلى الله عليه وسلم أمَّته في الحديث نفسِه بما يدفعه عنهم، ودلالة الاقترانِ هذه ترجِّح أن يكون «السَّم» مثل «السِّحر» على معنى يكثر تلبُّس النَّاس به، وكثرة بلواهم به في كلِّ زمانٍ ومكان، فيكون المُراد الأنسب على ذلك: ما كان في الأشربةِ والأطعمة الرَّديئة أو المتعفِّنة، أو ما يَستنشقه النَّاس مِن الأبخرةِ والدَّواخن المُضرَّة في الهواء، أو في ما يكون مِن سمومِ الزَّنابير والعقارب ونحوها مِن الحشرات، فكلُّ هذا داخل في مُسمَّى السَّم لغةً وعُرفًا.

فهذا هو الأقومُ في المُراد بلفظ «السُّم»، والانصراف عن ظاهر إطلاقِ لفظِه في الحديث ليس أمرًا مُحدَثًا عند فقهاءِ الحديث، بل قد دَرج عليه بعض مُحقِّقيهم، كما تراه عند ابن القيِّم في قوله: «يجوز نفع التَّمر المَذكور في بعض السُّموم، فيكون الحديث مِن العامِّ المَخصوص، ويجوز نفعه لخاصيَّة تلك البَلد، وتلك التُّربة الخاصَّة من كلِّ سمٍّ» (١).

والَّذي سوَّغَ لنا القول بهذا النَّوع مِن السُّموم أنه المَعنيُّ بالحديث لا مطلقًا: ما عَمِي عنه المُتعجِّلون في الطَّعن على الحديث، مِن تلك البحوث والدِّراسات العلميَّة المتكاثرة المُجراة على التُّمور، حيث أثبتَت أثرَها الوِقائيَّ مِن أنواع السُّموم المختلفة الَّتي يتعرَّض لها الإنسان في حياته اليوميَّة.

فمن تلك الدِّراسات الحديثة: بَحث مُحكَّم نشره الدُّكتوران: عبد الكريم السَّلال، وأحمد ديسي، في مجلة علميَّة تُصدِرها جامعة «كامْبرِيدْج» البريطانيَّة،


(١) «زاد المعاد» (٤/ ٩٢).

<<  <  ج: ص:  >  >>