للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فمَن ذهب مِن المعاصرين إلى تعميمِه على كلِّ تمرٍ -مَدنيًّا كان أم غيره- فقد أبعد النّجعة بذلك! لأنَّه ألغى به القَيد الصَّريح في اللَّفظ النَّبوي مِن غير مقتضٍ صحيح.

نعم؛ قد أثبتَت الدِّراسات المُختبريَّة الحديثة نجاعةَ التُّمور عمومًا في الوقاية مِن أثرِ السُّمومِ، لكنَّها لا ترقى أن تُلغي القيدَ الوارد في الحديث، فليس في نصِّ الحديث ما يَنفي أن يكون في باقي أنواعِ التُّمور شَيءٌ مِن تلك الفاعليَّة المَوجودة في عَجوةِ المدينة، كما ليس فيه ما يَنفي أن يكون في باقي تُمور الدُّنيا شيءٌ مِن الأثر الَّذي يحدثه تمر المدينة، .. لكنَّه يبقى شيئًا مِن كلٍّ!

وعلى فرضِ اشتراكِ سائر التُّمور للعجوة في جنسِ التَّأثير في السُّموم والأسحار، فإنَّ عَجوةَ المدينةِ أكمل التُّمور وأنجعها في الوقاية مِن السَّم والسِّحر، ووِقاية غيرها ناقص بالنِّسبة إلى ما في العَجوة مِن بركةِ، فلأجل ذا تقصَّدها النَّبي صلى الله عليه وسلم في لفظ حديثِه بالوَصيَّة دون غيرها مِن التُّمور (١).

وأمَّا في ما يتعلَّق بغَلط المُعترِضين في فهمِ لفظ «السُّم» الوارد في الحديث:

فإنَّ السُّموم في عُرفِ كلامِ العَرب لا ينحصر في ما يَقتلُ، بل يطلقونها ويَقصدون ما يَضرُّ منها جدًّا وإن لم يقتل، ولذا ترى شِمْرًا (٢) يقول: «ما لا يَقتل ويَسمُّ فهو: السَّوام، لأنَّها تَسمُّ، ولا تبلغ أن تَقتل، مثل: الزَّنبور، والعقرب، وأشباهها .. » (٣).


(١) الغريب أن يجنح بعض الباحثين إلى ترجيح رواية «التَّمرات» على رواية «العجوة» بما لم يسبقه إليه أحدٌ من الأئمَّة، ليُثبت به شمولَ هذا النَّفع الوارد في الحديث لعموم التُّمور كيفما كانت، أعني به (د. جميل أبو سارة) في رسالته «أثر العلم التَّجريبي في كشف نقد الحديث النبوي» (ص/٢٤٣)، اعتمادًا منه على تلك البحوث المخبريَّة الَّتي تثبت أثر التُّمور في الوقاية من السُّموم! ونَسي أنَّ البحوث الَّتي اعتمدها في بحثه هذا لم تعتمد على تمور المدينة البتَّة، لا مِن عجوة ولا غيرها! في حين أنَّ اللَّفظ الَّذي رجَّحه فيه « .. تمراتٍ ممَّا بين لابَتَيها» أي: أنَّها مُقيَّدة بتمور المدينة فقط! فانعدم التَّرابط التامُّ بين المَدلول وما يظنُّه دليلًا له.
(٢) شِمْر بْن حَمْدُوَيْه أَبُو عَمْرو اللُّغَوي: أديب خُراسان، كَانَ رأسًا فِي العربية والآداب، وكان مِن أئمّة السنة والجماعة، توفي (٢٥١ - ٢٦٠ هـ)، انظر «تاريخ الإسلام» للذهبي (٦/ ٩٧).
(٣) «تهذيب اللغة» للأزهري (١٢/ ٢٢٤)، و «الغَريبَين» لأبي عبيد الهروي (٣/ ٩٣٥).

<<  <  ج: ص:  >  >>