للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أَمَا وقد جاء لفظُ الحديث في «الصَّحيحين» بالتَّنكيرِ: «في الحبَّة السَّوداء شِفاء .. »، وفي لفظٍ عند مسلم: « .. إلَّا في الحبَّة السَّوداء مِنه شفاء» (١): فلا!

بيان ذلك في تقرير أمرين:

الأوَّل: أنَّ هذه الحروف في لفظِ المتنِ (مِن) و (في)، تُفهِم السَّامعَ معنى التَّبعيض والاجتزاء بالحرفِ الأوَّل، أمَّا الحرف الثَّاني (في) فتجعل الشِّفاء مظروفًا في الحبَّة السَّوداء على وجهِ (الظَّرفية المَجازيَّة)، وتفيد مجرَّد المُلابسة، تصلح للدَّلالة على تخلُّفِ المَظروف عن بعضِ أجزاءِ الظَّرف، لأنَّ الظَّرف يكون أوسع مِن المظروف غالبًا (٢)، وإنَّما جِيء بهذا الأسلوبِ للدَّلالة على تمكُّن مُلابسةِ الشِّفاء إيَّاها، وإيماءً إلى أنَّه لا يقتضي أن يطَّرِد الشِّفاء بها وحدَها في كلِّ حالةٍ.

ثانيًا: لفظ «شِفاء» جاء في الحديث نكرةً، «والنَّكرة في سياقِ الإثباتِ لا تفيد العموم» (٣)، بل يفيد ظاهرها الإطلاق فقط، أي مُطلق الشِّفاء، لا الشِّفاء المطلق!

فيكون المعنى بادي الرَّأي: أنَّ الحبَّة السَّوداء يُقال أنَّها (شِفاء): باعتبار شفائِها لكثيرٍ من الأمراضِ لا كلِّها، وهو نظير ما قاله المُفسِّرون في المُراد بكونِ العَسل {فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ} [النحل: ٦٩] (٤).

لكنْ لمَّا وجدنا آخر الحديث يؤكدُّ على عمومِ الأدواءِ بقوله صلى الله عليه وسلم فيه: « .. لكلِّ داء» (٥)، قَرَنَّا بالدَّلالةِ السَّابقةِ دلالةً أخرى تفيد معنى (النِّسبيَّة) في


(١) أخرجه مسلم في (ك: الآداب، باب: التداوي بالحبة السوداء، رقم: ٢٢١٥).
(٢) «التحرير والتنوير» لابن عاشور (١٤/ ٢٠٩).
(٣) «المقاصد الشَّافية» للشاطبي (٨/ ٢٤٨).
(٤) انظر «الكشَّاف» للزمخشري (٢/ ٦١٩)، و «البحر المحيط» لأبي حيان (٦/ ٥٦١).
(٥) الأرجح في نظري من أقوال العلماء ما ذهب إليه ابن أبي جمرة ـ كما في «الفتح» (١٠/ ١٤٥)، والمباركفوري في «تحفة الأحوذي» (٦/ ١٦٣) وغيرهما: من بقاء هذا اللَّفظ على عمومه، فإن (كلَّ) من ألفاظ العموم لا تُخصَّص إلا بدليل، وتجويز ابن القيم لتخصيصه كما خُصِّص قول الله تعالى: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا} جمع منه بين مفترقين، فإنَّ الآية يمتنع حملها على العموم على ما هو عند كلِّ عاقلٍ معلوم، أمَّا لفظ حديثنا هذا فحمله على العموم متعيِّن لقوله صلى الله عليه وسلم فيها: « .. إلَّا السَّام»، ومن المقرر في الأصول أن صحَّة الاستثناء معيار العموم.

<<  <  ج: ص:  >  >>