للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وجمهورُ الفقهاء حين جَنحَ إلى كونِ الصَّلاة لا يقطعها شيءٌ مِن تلك الثَّلاثة ولا مِن غيرها (١) مُستَدلِّين لذلك بنصوصٍ أخرى هي أقوى دلالةً عندهم في هذا الباب: لم يَتوجَّهوا إلى حديثِ أبي ذرٍّ رضي الله عنه ونحوه بالرَّفضِ؛ فلولا أنَّهم على الإقرار بصحَّة هذه الرِّوايات في قطعِ الصَّلاة، مَا اختلفوا إزاءَها على مَسلكين:

قِسم رآها مَنسوخةً: ومِمَّن سَلَك هذا المَسلك في النَّسخِ: الطَّحاويُّ، وبعض الفقهاء (٢).

والنَّاسِخُ عندهم: حديث ابن عبَّاس في مرورِ الأَتانِ بين يَدَيْ الصَّف، وكان في حَجَّة الوَداع آخرَ عُمر النَّبي صلى الله عليه وسلم، قالوا: فإذا نُسِخ منها الحمار، دَلَّ على نَسْخِ الباقي (٣).

ونَسَخه أيضًا حديث عائشة في اعتراضِها بين يَدَيْ صلاةِ النَّبي صلى الله عليه وسلم، «فإنَّا نَعلمُ أزواجَه -خصوصًا عائشة- ما حَكينَه عنه مِمَّا يَتكرَّر في كلِّ ليلةٍ هو النَّاسخ، لأنَّه لو حَدَث شيءٌ عَلِمنَ به» (٤).

وقد تُعُقِّب هذا المَسلك بما قاله النَّووي: « .. مِنهم مَن يدَّعي نسخَه بالحديثِ الآخر: «لا يقطعُ صلاة المرءِ شيءٌ، وادرءوا ما استَطَعتم»؛ وهذا غير مَرضيٍّ، لأنَّ النَّسخَ لا يُصَار إليه إلَّا إذا تَعَذَّر الجمع بين الأحاديث وتأويلُها، وعَلِمنا التَّاريخ، وليس هنا تاريخ، ولا تَعذَّر الجمع والتَّأويل، بل يُتَأوَّل على ما ذَكرناه، مع أنَّ حديث: «لا يَقطع صلاةَ المرءِ شيءٌ .. » ضَعيف» (٥).

قلتُ: وهو كما قال، فإنَّ حديث أبي سعيد رضي الله عنه هذا «لا يَقطع الصَّلاة شيءٌ» مِن روايةِ مُجالد بن سعيد، قد ضعَّفه الجمهور وَرَمَوه بالاختلاطِ بأخرة،


(١) رُوي ذلك عن عثمان، وعلى، وحذيفة، وابن عمر، وابن عباس رضي الله عنهم، ومن التَّابعين جماعات، وهو قول مالك بن أنس، والثَّورى، وأبى حنيفة، والشَّافعى، وأبى ثور، وداود، والطَّبري، انظر «مَعالم السُّنن» (١/ ١٨٩)، و «الاستذكار» (٢/ ١٤١).
(٢) انظر «شرح معاني الآثار» للطحاوي (١/ ٤٥٩)، و «التمهيد» لابن عبد البر (٢١/ ١٦٨).
(٣) انظر «فتح الباري» لابن رجب (٤/ ١٣١).
(٤) «طرح التثريب» للعراقي (٢/ ٣٩٠).
(٥) انظر «شرح النووي على مسلم» (٤/ ٢٢٧)، و «فتح الباري» لابن حجر (١/ ٥٨٩).

<<  <  ج: ص:  >  >>