للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الوجه الثَّاني: القولُ بعِصَمَة الأنبياءِ مِن السَّهو والنِّسيان، فضلًا عن مُخالفتِه لصريحِ آي الكتابِ، هو مُخالفٌ للفطرةِ البَشريَّة الَّتي أجراها الله تعالى على البَشَر دلالةً على نقصِهم، والأنبياء لا شكَّ مِن جُملتِهم وإن كانوا أكملَهم؛ فذانِك أصلٌ في بني آدم كلِّهم، ومَن أخرجَ الأنبياءَ مِن هذا الأصلِ مُلزمٌ هو بالدَّليل؛ وأنَّا للإِماميَّةِ به؟! وقد نُقِل الإجماعُ على جَوازِ ذلك فيهم عليهم السَّلام (١).

الوجه الثَّالث: أنَّ السَّهو قد يَقَعُ مِن الإنسانِ وهو خاشِعٌ في صلاتِه، خاضعٌ فيها لربِّه، ولا مُنافاة بينهما، وهذا واقعٌ بالتَّجربة، مَعلومٌ مِن أحوالِ النَّاس.

الوجه الرَّابع: إنَّ وقوع السَّهوِ مِن النَّبي صلى الله عليه وسلم في صلاتِه في بضعِ مرَّاتٍ قليلةٍ طيلةَ حياتِه المُبارَكة، لا يجعلُه بحالٍ في عِدادِ السَّاهين أو اللَّاهين، كما وَدَّ الكاتبُ أن يُصوِّره تَهويلًا وتشنيعًا، فمثلُ هذه النُّعوتِ المُشينة، لا يَصحُّ إطلاقُها إلَّا على مَن كان ذلك ديدَنَه -كما أشرنا إليه آنفًا-، وليس في أخبارِ سَهوِه صلى الله عليه وسلم ما يُشير إلى تكرُّرِ ذلك منه.

هذا على ما أجراه الله تعالى على نبيِّه مِن ذلك السَّهو من جليلِ الحِكَم التَّشريعيَّة، حتَّى عَدَّ ابن القيِّم «سهوَه صلى الله عليه وسلم في الصَّلاةِ مِن تمامِ نعمةِ الله على أُمَّتِه، وإكمالِ دينِه، ليقتدوا به فيما يُشرِّعه لهم عند السَّهو» (٢).

الوجه الخامس: ما ادَّعاه من وضعِ هذه الأحاديث تسويغًا لِما صَدَر مِن بعضِ الأمراءِ من تخليطٍ في ركعاتِ الصَّلاةِ جرَّاء سُكرِهم، فهو من المؤلِّف مُغالطةٌ ومُكابرة، تقتضي عدمَ تفريقِه بين السَّهو والسُّكْر! فلا صِلة بين سهو العاقلِ الصَّاحي في صلاتِه، وبين صلاته وهو سكران.

ثمَّ إنَّ استشهاده بالوليد بن عقبة زيادةٌ منه في الغَيِّ، فإنَّ الوليدَ حين صَلَّى الفجرَ أربعًا لسُكرِه، لم يعتذر لمَن خلفَه بهذه الأحاديث، ولا الخليفة عثمان رضي الله عنه سَوَّغَ فِعْلَتَه كما يُسَوَّغ للسُّهاةِ، بل عاقبَه!


(١) نقله الشَّوكاني في «إرشاد الفحول» (١/ ١٠١).
(٢) «زاد المعاد» (١/ ٢٨٢).

<<  <  ج: ص:  >  >>