للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

والأصل الثاني عند المُنكرين: التَّشكيكُ في حفظِ السُّنةِ مِن الضَّياعِ:

وهو نتاجٌ للأصل الأوَّل؛ ذلك أنَّ المُنكرين متوهِّمون أنَّ الله عز وجل إنَّما تكفَّل بحفظِ كتابِه لا بحفظِ سُنَّة نبيِّه، الأمر الَّذي أفهمَهم لِمَ لمْ تُدوَّن في عصر النُّبوة، كما ترى ذلك في قول (أحمد بَرويز): «اِعلم أنَّ الله عز وجل لم يتكفَّل بحفظ شيء سوى القرآن، ولذا لم يجمع الله الأحاديث، ولا أمر بجمعها، ولم يتكفَّل بحفظها .. » (١).

وما دام أنَّ رُواة أحاديث السُّنة غيرُ مَعصومين مِن الخطَأ والكذبِ فيها، دلَّ ذلك عنهم على أنَّ الدِّين ليس في حاجة إلى السُّنة، وإلَّا لنُقِلَت إلينا بالتَّواتر كما نُقلِ القرآن.

وهذه دعوى -لا شكَّ- ساقطة، فإنَّ الحفظَ التَّام الَّذي أراده الله عز وجل ليس لمُجرَّدِ حفظِ الحروفِ والمباني، دون حفظٍ لما تَضمَّناه مِن أحكامٍ ومَعاني، فإنَّ ما جاء مُجملًا في القرآن أو عامًّا، فإنَّ الله أوكل مهمَّة تبيِينه وتَفصيلِه قولًا وتطبيقًا للنَّبي صلى الله عليه وسلم، كما في صريح قول الله تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل: ٤٤].

فهذه الآية قد دلَّت على أنَّ فهمِ القرآن معيارُه أقوال النَّبي صلى الله عليه وسلم وسيرته، حفظًا لمعانيه مِن تلاعبِ الأهواء ومَزالقِ التَّأويل غير المتناهية، وهذا قصدُ مَن أطلق من السَّلفِ أنَّ «السُّنة قاضيةٌ على كتابِ الله، أرادوا أنَّها مُبيِّنة للكتابِ، مُنبِّئةٌ عمَّا أراد الله تعالى فيه» (٢).

فإذا كانت السُّنَة على هذه الحال من بيانِ الكتاب، كان مِن تمامِ حفظِ هذا الكتاب للنَّاس أن يُحفَظ لهم مُفسِّره، مِمَّأ يقتضي أنَّ «حفظَ الله تعالى لسُنَّة نبيِّه صلى الله عليه وسلم، هو مِن جنسِ حفظِه لكتابِه» (٣).


(١) «شبهات القرآنيين حول السنة» لمحمود مزروعة (ص/٨٤).
(٢) «تأويل مختلف الحديث» لابن قتيبة (ص/٢٨٧).
(٣) «جواب الاعتراضات المصرية» لابن تيمية (ص/٤٢).

<<  <  ج: ص:  >  >>