للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يأتي أحد إلى دينٍ كدين الإسلام عمادُه النَّقل، فيزعم أنَّه أعلمُ بأحكامه وشرائعه ومقاصده من النَّقَلَة أنفسِهم!

ثمَّ اشتدَّ عراك الحداثيِّين لعلماء الإسلام على أن يكون نصُّ القرآنِ مَفتوحًا لأكثرِ مِن قراءةٍ، بحسبِ فهمِ القارئِ ومُستَجَدَّاتِ حياتِه! يزعمون بهذا الانفتاح شموليَّةَ القرآن وعالَمِيَّته (١)؛ وإلى هذا غايةُ العَلمانيِّ في معركتِه الطَّويلةِ مع الأصوليِّين.

فلكَمْ تَباكوا على لفظِ «الحكمةِ» في آياتِ القرآن أنْ فسَّرها الشَّافعيِّ بـ «السُّنة»، حتَّى اتَّهموه بالسَّعيِ إلى «تفقيرِ دَلالةِ الحِكمة، وإغلاقِ بابِ الاجتهادِ، إزاءَ نصٍّ كان في الأساسِ مُنفَتِحًا على مُختلفِ القراءاتِ» (٢)؛ وأنْ ليس اعتبارُه للسُّنةِ مَصدرًا للتَّشريعِ، إلَّا إحدى «شَطَحاتِ الشَّافعيِّ ومُحدَثاتِه»! (٣) فإنَّ «تأسيسَ مَنزلةِ السُّنةِ لم يَبدأ إلَاّ معه، حيث عَمِل على حسمِ الصِّراع الفكريِّ والدِّيني، ورَكَّز الأصولَ الفقهيَّة في أربعةٍ، هي: الكتاب، والسُّنة، والإجماع، والقياس، فخَوَّل له هذا التَّرتيبُ تَثبيتَ مَشروعيَّة السُّنةِ»! (٤)

وكلُّنا يعلَم أنَّ الشَّافعي لم يبتدع هذا الأصلَ مِن بناتِ أفكارِه، بل هو إجماع، جَرى عليه عملُ المُسلمين مِن عهد النَّبي صلى الله عليه وسلم إلى زَمنِه فما بعده؛ لم يَزِد هو على أن دَوَّنه وأصَلَّ له بأدلَّة الشَّرع والعقل، بطلب من عبد الرَّحمن بن مهدي (ت ١٩٨ هـ) -كما في مشهور قصَّة تأليف «الرِّسالة» -، وأقرَّه على ذلك علماء الأمَّة أجمعون، وأكبَروه فيه.


(١) انظر مقولاتهم في «التَّيار العلماني الحديث وموقفه من تفسير القرآن الكريم» لمُنى بهي الدين الشافعي (ص/٩٧ - ١١١).
(٢) «السنة بين الأصول والتاريخ» لحمدي ذويب (ص/٥٠).
(٣) خَصَّص (نصر أبو زيد) كتابًا كاملا لتثبيتِ هذه الفِرية، أسماه «الإمامَ الشَّافعي وتأسيس الإيديولوجية الوسطيَّة» (ص/٣٣)، وانظر «الحديث النَّبوي» لمحمد حمزة (ص/٦)، وهما في هذا تَبَع للمُستشرق اليهوديِّ «شاخت» في كتابه «أصول الشريعة المحمدية»،
(٤) مقدِّمة «الحديث النبوي ومكانته في الفكر الإسلامي الحديث» لمحمد حمزة (ص/٦).

<<  <  ج: ص:  >  >>