للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

مثالُ ذلك: لحمُ الخنزيرِ مُحرَّمٌ أكلُه بالنَّصِ، وهذا حُكمٌ خالٍ مِن أيِّ عَوارض، لكنَّه في بعض الحالاتِ قد يكون جائزًا، بل واجبًا، كما في حالةِ المُضطَرِّ المُشرفِ على الهلاكِ بالجوع مَثلًا.

فهذا حين نُجيز له أكلَ لحمِ الخنزير، فليس ذلك تَغيُّرا في الحُكم بمَفهومِ الشَّارعِ، لأنَّها صورةٌ مختلفةٌ عن الصُّورة الأصل.

فعليه نُنبِّه المُغالِطينَ بمثل هذه القواعد الفقهيَّة فنقول:

إنَّ الزَّمانَ والمكانَ مِن حيث هما ظرفان لتلك الحوادث، لا تأثيرَ لهما في تَغيِيرِ الأحكام، وقولُ العَلمانيَّة بأنَّها تتغيَّر بتَغيُّر الأزمانِ لا يصحُّ منهم إلَّا بعد الإتيانِ بمثالٍ تتطابق فيه صورتانِ مِن الأوجه السَّابقةِ جميعًا، ومع ذلك بقِيَ الحكم فيهما مُتغايرًا؛ وأنَّى لهم بهذا المثال!

فلذا كان الصَّحيح من حيث الشَّرع والعقل أن يُقال: إنَّ تغيُّر الأحكامِ متعلِّقٌ بتحقُّقِ المناطِ الَّذي عُلِّق به الحكم من عدِمه، فإذا تحقَّق في صورةٍ ما: لزِم أن تأخذ تلك الصُّورة نفسَ الحكم، وإذا انعدم في صورةٍ ما: لم يأخذ نفسَ الحكم.

وهذا عَينُ ما سَلَكه عمرُ رضي الله عنه عند منعِه لسَهمِ المُؤلَّفة في الزَّكاة، فإنَّ مناطَ التَّأليفِ انتفَى في زَمنِه، وكذا إيقافِه رضي الله عنه لحَدِّ السَّرقةِ عامَ المَجاعةِ، و «هو مَحْضُ القِياس، ومُقتضى قواعد الشَّرع؛ فإنَّ السُّنة إذا كانت سَنة مجاعةٍ وشدَّة، غَلَبَ على النَّاسِ الحاجةُ والضَّرورة، فلا يَكاد يَسْلَمُ السَّارق مِن ضرورةٍ تدعوه إلى ما يَسدُّ به رَمَقَه، ويجبُ على صاحبِ المالِ بَذْلَ ذلك له، إما بالثَّمنِ، وإمَّا مجَّانًا، على الخلافِ في ذلك» (١)؛ مع ما تَقرَّر في شرعنا من أنَّ الحدود مَدروءةٌ بالشُّبهاتِ.

فسَقَط استدلالُهم الأصوليُّ هذا بالتَّمام، ولله الحمد.


(١) «إعلام الموقعين» لابن القيم (٤/ ٣٥٢).

<<  <  ج: ص:  >  >>