للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

حيث النَّقل؛ ما استلزم -في زعمِهم- إعادةَ تشكيل بعضِ الأحكامِ الدِّينيَّة بما يَتَوافق والقوالبَ الفلسفيَّة السَّائدة، وذلك بالتَّلفيقِ -ولو جُزئيًا- بين أطروحاتِ الحضارة المَدنيَّة الحديثة والمَرجعيَّة الإسلاميَّة العَتيقة.

أوليس الإسلام صالحًا لكلِّ زمانٍ ومكانٍ؟! إذن لا بُدَّ مِن التَّجديد في بعضِ أحكامِه وتبديلها لتصدُق هذه المَقولة! آبينَ -في الوقت ذاتِه- أن يَتَنكَّروا لشريعتِهم خلافَ مَن تَنكَّب مِن أتباعِ العَلمانيَّة، بحسبِ ما عندَ كلِّ فردٍ منهم مِن آثارِ التَّسليمِ لنصوصِها، واليقينِ بأدلَّتها، والاعتزازِ بالانتماء إليها، وعليه خصصتُ هذا التَّيار الإصلاحيَّ بوَصفِ «الإسلاميِّين» أو «الإصلاحيِّين»، لاهتمامِهم بإصلاح المَنظومات الدينيَّة والسِّياسية والاجتماعيَّة وفق نظرة شرعيَّة خاصَّة -وإن بَدا مِن بعضِهم نوعُ غلوٍّ في استعمالِ العَقليَّاتِ في نَظرتِه للدِّين- تميِيزًا لهم عن باقي طوائفِ المَدرسة العَصرانيَّة بمَفهومِها العامِّ (١).

ففي هذه المرحلةِ الحسَّاسةِ بالذَّات مِن تاريخ هذا الصِّراعِ الحضاريِّ، بَدَأت تَتَكاملُ مَلامحُ مدرسةِ التَّجديدِ الدِّيني شيئًا فشيئًا، بعد أن رسمَ تشكُّلاتِها الأولى جمالُ الدِّين الأفغاني (ت ١٣١٥ هـ) (٢)، على أساسٍ قد سُبق إليه مِن أربابِ


(١) تنقسم المدرسة العقلانيَّة المُعاصرة إلى ثلاث طوائف:
الأولى: مَن يُنكر الوحيَ الإلهيَّ بالكليَّة، وهم غُلاة العَلمانيَّة، حيث يَرون أنَّ أيَّ مخطَّطٍ للحياة الإنسانية، يجب أن يصدر عن عقل الإنسان، فقط بعيدًا عن الدِّين.
الثانية: لا تُنكر قداسة الوحي صراحةً، وتظهر احترامَه في الظَّاهر، لكنَّها تُفرِّغه مِن مَضمونه وتُلغي تطبيقه، كما عند عابد الجابريِّ، وعبد الله العروي، وسعيد العشماويِّ، وأضرابِهم.
الثالثة: وهم العقلانيُّون الإسلاميون، وهو مَوضوع الدِّراسة في هذا المَبحث.
انظر «العصرانيون بين مزاعم التجديد وميادين التغريب» لمحمد الناصر (ص/١٧٦ - ١٧٧)، و «منهج المدرسة العقلية الحديثة في التفسير» لـ د. فهد الرومي (ص/٧٠).
(٢) محمد بن صفدر جمال الدين الأفغانيُّ: فيلسوف الفكر الإسلاميِّ في عصره، واسع الاطِّلاع على العلوم القديمة والحديثة، وُلد في أسعد آباد بأفغانستان، ونشأ بكابُل، وتلقَّى العلوم العقليَّة والنَّقلية فيها، وبَرَع في الرِّياضيات، ثمَّ انتظم في سلك رجال الحكومة في عهد (دوست محمَّد خان).
ثمَّ رَحل مارا بالهند ومصر، إلى الآستانة (سنة ١٢٨٥) فجُعل فيها من أعضاء مجلس المَعارف، ونُفي منها (سنةَ ١٢٨٨ م)، فقَصَد مصر، لينفُخ فيها همَّه للنَّهضة الإصلاحيَّة، دينًا وسياسةً، وتتلمذ له نابغةُ مصر وقتَها (محمَّد عبده) وكثيرون.
ثمَّ نفته الحكومة المصرية (سنة ١٢٩٦ م) فهاجر إلى حيدر آباد، ثم إلى باريس، فأنشأ فيها مع تلميذه عبده جريدةَ (العُروة الوُثقى)، ورَحَل رحلات طويلة؛ من مؤلَّفاته: «تاريخ الأفغان» و «رسالة الرَّد على الدَّهريِّين»، ترجمها إلى العربيَّة تلميذُه محمد عبده، انظر «الأعلام» للزركلي (٦/ ١٦٨).

<<  <  ج: ص:  >  >>