للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الحمد لله، وبعد:

لمَّا تبوَّأ الصَّحيحان تلكم المكانة السَّامية عند علماء الأمَّة سَلَفًا وخلفًا بِما حازاه مِن قصبِ السَّبقِ في مراتب الصِّحة، كان ولا بُدَّ لمن أراد الاعتراض على شيءٍ فيهما أن يُدلي للنَّاسِ بمُسوِّغاتِه العلميَّةِ الَّتي استجاز بها مخالفةَ جماهير العلماء في رفض ما تلقَّوه بالقَبول فيهما.

هذه المُسوِّغات هي عامَّة الأصول الَّتي أيَّد بها الكُتَّاب المعاصرون تعليلَهم لِما أعلُّوه من متونِ «الصَّحيحين»، وعليها ابتنوا عمَلهم النَّقديَّ لما تضمَّناه من أخبار، فإنَّهم إذا ما طعنوا في شيءٍ منها تذرَّعوا بإحدى تلك الأصول المُسوِّغات أو بكلِّها، والَّتي حصرتُها في أربعٍ (١):

المُسوِّغ الأوَّل: وقوع الخَلل التَّوثيقيِّ في تَصنيفِ «الصَّحيحين» وتَناقُلِهما، فكانا عُرضة للتَّصرف فيهما والانتحال عليهما.

المُسوِّغ الثَّاني: دعواهم أنَّ أخبار «الصَّحيحين» لا تُفيد إلَّا الظَّن، فاحتمال الخطأ من رُواتها قائم، ما يعني انتفاء الحرج على مَن غلَّب جانب الخطأ أو الكذب إذا ما استنكر المتن.

المُسوِّغ الثَّالث: دعوى إغفال البخاريِّ ومسلمٍ للمتونِ في منهجهم النَّقدي للأحاديث، لتنتقل مهمَّة نقدِ المتون وتمحيصِها إلى الأجيالِ اللَّاحقة.

المُسوِّغ الأخير: سَبْقِ العلماءِ إلى نقد «الصَّحيحين» قديمًا وحديثًا، فلا حَرَج على المُحْدَثين مِن استباحة ما استباحه أسلافهم مِن تعليل بعض أخبارهما.

فعلى هذا سينصبُّ تَوجُّهي في هذا البحث على نقدِ هذه الأصول المُسوِّغات أوَّلًا قبل مناقشةِ طعونِهم الجزئيَّة على آحاد الأحاديث، حتَّى لا أدع ثغرًا ينفذون منه إلى «الصَّحيحين» إلَّا سدَدته عليهم -بإذن الله-؛ إذ كان من


(١) لم أجعل كلامَ مَن سَوَّغ الطَّعنَ في مُتونهما لأجلِ إكفارِه الصَّحابة رضي الله عنهم أو تفسيقهم -مثلًا- مُسوِّغًا يَستحقُّ الإطنابَ في دراستِه، كما تذهب إليه عموم الشِّيعة الإماميَّة؛ فإنَّ مَن تَنجَّس بهذه البائقةِ في حقِّهم رضي الله عنهم، المناقشةُ الحقيقيَّة معه هي في أصلِ الإسلامِ وصدقِ الرِّسالة أصالةً! لا في جزئيَّاتٍ تَتَعلق بآحادِ الأخبار ومفاد متونها.

<<  <  ج: ص:  >  >>