للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فهذه الشُّبهة مع كثرة من يردِّدها من المعاصرين ليست وليدة زمانِنا، بل قديمة تكفَّل المُتقدِّمون بردِّها؛ مثل ما تراه في ردِّ الدَّارمي (ت ٢٨٠ هـ) (١) على ابنِ الثَّلجيِّ (ت ٢٦٦ هـ) (٢) في قولِه له:

«زعمتَ أنَّه صَحَّ عندك أنَّه لم تُكتب الآثارُ وأحاديثُ النَّبي صلى الله عليه وسلم في زَمنِ النَّبي صلى الله عليه وسلم والخلفاءِ بعده، إلى أن قُتل عثمان رضي الله عنه، فكثُرت الأحاديث وكثُر الطَّعن على مَن رَوَاها.

فيُقال لهذا المُعارِض: دَعْوَاك هذه كَذِبٌ، لا يَشوبه شيءٌ مِن الصِّدق؛ فمِن أين صحَّ عندك أنَّ الأحاديث لم تَكُن تُكتب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والخلفاء بعده إلى أن قُتل عثمان؟ ومَن أنبأَك بهذا؟ فهلُمَّ إسناده، وإلَّا فإنَّك مِن المُسرفين على نفسِك، القائلين فيما لا يَعلم.

فقد صحَّ عندنا أنَّها كُتبت في عهدِ رسول الله صلى الله عليه وسلم والخلفاءِ بعده، كَتَب عليُّ بن أبي طالب رضي الله عنه منها صحيفةً -وهو أحدُ الخلفاء- مِن رسولِ الله، فقَرَنها بسَيفِه، .. ثمَّ كتَبَ عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم عبدُ الله بن عمرو رضي الله عنه، فأكثرَ، واستأذنَه في الكتابِ عنه، فأذِنَ له» (٣).

فأنت ترى هذا الرَّبط بين تأخُّرِ تدوينِ الحديثِ وعدمِ الحاجةِ إلى السُّنة ربطٌ فيه مُغالطةٌ كبيرة، مُتفرِّعٌ عن عيبٍ مَنهجيٌّ في الاستدلال؛ على التَّنزُّل بعدم تدوين الحديث حقيقةً في القرن الأوَّل كما يدَّعيه المغالطون للتَّاريخ، وإلَّا فالدَّلائل على كتابةِ الحديث أيَّام الصَّحابة والتابعين متكاثرة تُطلب في مظانِّها لو أنصفوا.

ثمَّ على التَّسليمِ بعدمِ حصول شيءٍ من التَّدوينِ للسُنَن في الصَّدر الأوَّل، فإنَّ ذلك غير مُستلزم لعدم حاجتهم للسُّنة؛ وما تلك المُصنَّفاتِ الحديثيَّة الَّتي


(١) عثمان بن سعيد بن خالد الدارميُّ: محدِّث هَراة، صلبٌ في السُّنة، له تصانيف في الرد على الجهمية، أشهرها «النقض على بشر المريسي»، و «المسند الكبير»، انظر «تاريخ الإسلام» (٦/ ٥٧٤).
(٢) محمد بن شجاع الثلجي البلخي: فقيه بغدادي حنفي، على مذهب المعتزلة، من مُصنَّفاته «تصحيح الآثار»، و «الرد على المُشبهة»، توفي (٢٦٦ هـ)، انظر «سير أعلام النبلاء» (١٠/ ٧٢).
(٣) «نقض الدَّارمي على المرِّيسي» (٢/ ٦٠٤).

<<  <  ج: ص:  >  >>