يُدَّعى تأخُّرَها عن الجيلِ الأوَّلِ إلَّا جمع لما ورثه خلفُهم عنهم شفاهًا في عمومه، فلم يأتِ المُدوِّنون بشيءٍ من أكياسهم.
وهذا القرآن الكريم نفسُه، لم يُجمَع كتابةً في المصحفِ إلَّا مُتأخرًا بسنوات عن تمامِ نزولِه، فهل معناه -بمنطق المُخالفين- أنَّ المسلمين منذ وفاة النَّبي صلى الله عليه وسلم إلى أن دُوِّنَ في زمنِ عثمان رضي الله عنه، لم يكونوا في حاجةٍ إلى القرآنِ؟!
إنَّ المعلوم بداهةً لمِن أنعمَ النَّظرَ في كُتبِ التَّواريخ والسِّيَر، أنَّ كَتْبَ الحديثِ مَرَّ بمراحل عِدَّة، مُواكبًا في ذلك الرَّواية الشَّفَهيَّة وحفظِ الصُّدور، سُجِّلت في أوَّلها الأحاديث في عصر الصَّحابة والتَّابعين في كراريس صغيرة، أُطلِق على الواحدِ منها اسم الـ «صَّحيفة» غالبًا، ثمَّ ضُمَّت الكتاباتُ المُتفرِّقة في الرُّبعِ الأخيرِ مِن القرنِ الأوَّلِ وأوائلِ الثَّاني، ثمَّ رُتِّبت الأحاديث في مَرحلة تاليةٍ وِفق مَوضوعاتِها في أبوابٍ، بَدءً مِن الرُّبعِ الثَّاني مِن ذاتِ القرنِ، وفي أواخرِه ظهَرَت إلى جانبِ الطَّريقةِ الأولى، طريقةُ ترتيبِ الحديثِ وِفق أسماء الصَّحابة رضي الله عنهم في كُتبِ المَسانيد (١).
إنَّ المسلمين أبدًا كانوا في حاجةٍ إلى السُّنةِ منذ عهدِ النُّبوة إلى قيام السَّاعة؛ كلُّ ما في الأمر، أنَّ الجيلَ الأوَّل منهم لم يحتَج إلى التَّصنيفِ الجَمْعيِّ للحديثِ كما عند أخلافِهم، لتوافُرِ الصَّحابةِ الَّذين بثُّوا في النَّاسِ ما باشرَوه مِن النَّبي صلى الله عليه وسلم روايةً وتطبيقًا.
ومَعلومٌ أنَّ الحفظَ وقتَها عُمدته مُخبَّآت الصُّدور بالأساس، وكانت هِمَّةُ الدَّاخل في الدِّين مُنصرفةً في الجملة إلى تحفُّظِ القرآن، والسؤالِ عن ضروراتِ دينِه الجديد، دون أن يرى أكثرُهم حاجةً لأن يجعلَ ما يسمَعه منهم مِن أخبارٍ نبويَّة تصنيفًا مُستقِلًا في أوراق، وإن كان ذلك قد كان فعلًا صحائفَ شخصيَّة.
(١) انظر «السنة قبل التدوين» لعجاج الخطيب (ص/٢٩٣)، و «تدوين السنة النبوية نشأته وتطوره من القرن الأول إلى نهاية القرن التاسع الهجري» لأحمد مطر الزهراني (ص/٦٥).