للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وهكذا تلاحَقَت طبقاتُ الرُّواة على روايةِ الكِتاب على نفسِ النَّمَطِ المُتواتر في التَّحمُّل (١)، «فكان ذلك حُجَّةً لكتاب عاضِدةً، وبصدقِه شاهدةً، فتَطوَّق به المسلمون وانعَقَد الإجماعُ عليه، فلزِمَت الحُجَّة، ووَضَحَت المَحجَّة» (٢).

إذا تقرَّر هذا؛ فإنَّ المُستملي -الرَّاوي عن الفربري كتابَ البخاريِّ- يخلو كلامَه من مُستمسَكٍ لِمن توهَّم الكتابَ مُسودَّةً، وذلك أنَّه يقول بنصِّ عبارتِه: «انتسَختُ كِتابَ البخاريِّ مِن أصلِه، كان عند محمَّد بن يوسف الفَربري، فرأيته لم يَتمَّ بعدُ، وقد بَقِيت عليه مَواضعُ مُبيَّضة كثيرةٌ، منها تَراجم لم يُثبِت بعدها شيئًا، ومنها أحاديثُ لم يُترجِم عليها، فأضَفْنا بعضَ ذلك إلى بعض» (٣).

فإنِّي أستهجنُ أن يُحرَّف هذا النَّص خدمة لأغراض من يشتهي إسقاطَ الوثوقيَّة بـ «صحيح البخاريِّ»، فنصُّ المُستمليِّ براءٌ ممَّا انقدح في أذهانهم، بل هو على نقيضِها شاهدٌ! وبيانُ ذلك:

أنَّ دلالة نصِّ المُستملي مُنحصِرة في مَوضوعِ التَّراجم الَّتي بَيَّضها البخاريُّ في «صحيحِه» دون أن يَذكُر تحتها حديثًا، أو في الأحاديثِ الَّتي ذكرَها ولم يُترجِم لها بابًا؛ وذلك: أنَّ الأصلَ الَّذي كان عند الفَرَبري مِن «الصَّحيح» كانت فيه إلحاقاتٌ في الهوامِش ونحوها، وكان مَن ينسخُ الكتابَ يَضعُ المُلحَقَ في المَوضعِ الَّذي يَظنُّه لائقًا به، فمِن ثمَّ وَقَع الاختلافُ في التَّقديم والتَّأخير (٤).

ولعلَّ وجهَ ذلك: أنَّ النَّاسَ لمَّا أخذوا عن المُصنِّفِ، أخذوا أصلَ الحديث، وجَعلوا بعض الخصوصيَّاتِ هدَرًا، وحسِبوها كالواجبِ المُخيَّر، فرَوَوه كيفَما ترجَّح، والله أعلم (٥).


(١) والأمر نفسه حاصل في أخذ الرواة لـ «صحيح مسلم»، ويُعدُّ كتاب «الإلماع» للقاضي عِياض من أفضل الكتب في وصف منهج علماء الحديث في الانتساخ وضوابطه.
(٢) «إفادة النصيح» لابن رشيد السبتي (ص/١٨ - ١٩).
(٣) «التعديل والتجريح» للباجي (١/ ٣١٠).
(٤) انظر «فتح الباري» لابن حجر (٤/ ٣٠٠).
(٥) انظر قريبا من هذا التوجيه من كلام القسطلانيِّ في «فيض الباري» للكشميري (١/ ٣٧ - ٣٨).

<<  <  ج: ص:  >  >>