للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الأمصارِ، فجزموا بتبيِيضِه قبل وفاتِ مُصنِّفه بأعوامٍ كُثار: مَن هم أعلمُ النَّاس مُمارسةً لهذا الكتاب؛ كابن حَجرٍ العسقلانيّ (١)؛

وقبله بدرُ الدِّين ابن جماعة (ت ٧٣٣ هـ)، والَّذي احتجَّ على مَن نفى تبيِيضَ الكتابَ، بأنَّ البخاريَّ «أسمَعَ الكتابَ مِرارًا على طريقةِ أهلِ هذا الشَّأن، وأخَذَه عنه الأئمَّة الأكابر مِن البُلدان» (٢).

هذا؛ والمُستَملي الَّذي يُنسب إليه غلطًا ترك البخاريِّ لصحيحه مُسودَّة، هو نفسُه مَن رَوى عن الفَربريِّ قولَه: «سَمِع كتابَ الصَّحيحِ لمحمَّد بن إسماعيل تسعون ألف رجلٍ!» (٣)؛ فهل يُعقَل أن يُحدِّث البخاريُّ بكتابِه مَرَّاتٍ، وفي بُلدان مختلفةٍ، وهو لا يزالُ مُسوَّدةً لم يُصَحَّح؟!


(١) وما نجده من قولِ ابن حجر في «الفتح» (٧/ ٩٣) في سياقِ توجيهه لعدم الترتيب في تراجم مناقب العَشرة، من قولِه: « .. أظنُّ ذلك من تصرُّف النَّاقلين لكتاب البخاري، كما تقدَّم مرارًا أنَّه ترك الكتاب مُسوَّدة» اهـ قد يبدو من ظاهرِه أنَّ البخاريَّ حقًّا ترك كتابه من غير تبيِيضٍ، وعلى هذا الظَّاهر مشى د. أكرم العُمري في «بحوث في تاريخ السنة المشرفة» (ص/٣٢٠، ط ٥، ١٤١٥ هـ)، ومن قبله زاهد الكوثري في تعليقه على «شروط الأئمة الخمسة» للحازمي، حيث ادَّعى (ص/١٧٢) أنَّ البخاريَّ «لم يفرُغ من تبييض كتابه تبييضًا نهائيًّا».

وما ظُنَّ ظاهرًا من كلامِ ابن حجرٍ ليس هو مُراده، فإنَّه لا يتَّفق مع ما قرَّره هو نفسه وعمل به ابتداءً، من أنَّ البخاريَّ قد بيَّض كتابه، فيظهر لي أنَّ مقصوده بالمُسودَّة في النصِّ أعلاه: مجموعُ ما تَرَكه البخاريُّ من زياداتٍ أو إلحاقاتٍ بهوامش نُسختِه المُراجَعة المُبيَّضة، والَّتي احتاج مَن نَقَلَها عنه إلى تضمينِها في الكتابِ، وإلحاقِ كلٍّ منها في مكانه المناسب مِن جهة التَّرتيب، لا أنَّ مُراده أنَّ الكتاب بقي مُسَودَّة على المعنى الدَّارج بين المُصنِّفين، والَّذي يستتبع عدم المُراجعة والتَّنقيح والتَّرتيب للكتاب مِن مؤلِّفه، وإنَّما أطلق عليها الحافظ اسمَ (المُسوَّدة) مَجازًا في اللَّفظ ليس إلَّا.
هذا التَّوجيه مني لكلام ابن حجر حمل لعبارته المُحتَمِلة المُشتبِهة، على عبارته المُحكمِة المُفسَّرة الَّتي كرَّرها في عِدَّة مواطِن من كتابه «هدي السَّاري»، كقوله عند كلامه عن بعض مَقاصد البخاريِّ في تراجِمه (ص/١٤): « .. وللغفلة عن هذه المقاصد الدَّقيقة، اعتقدَ من لم يُمعِن النَّظر أنَّه ترَكَ الكتاب بلا تبييض، ومن تأمَّل ظَفر، ومن جدَّ وَجد»، وانظر أيضًا (ص/٤٨٩) منه، والله أعلم.
(٢) «مناسبات تراجم البخاري» لبدر الدين ابن جماعة (ص/٢٥ - ٢٦).
(٣) «تاريخ بغداد» للخطيب البغدادي (٢/ ٣٢٢)، وإن كان في إسنادها نظر، إلا أنه غير مستبعد، فقد بلغت شهرة البخاري وصحيحُه الآفاق، فكان البخاريُّ يُحدِّث به في كل مكان، إلى قُبيل وفاته بقليل.

<<  <  ج: ص:  >  >>