للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فهذا ما يَستَحِقُّ أن يُسَمَّى تحقيقًا وجِدِّيةً في التَّوثُّقِ العلميِّ لا عجَلَة الاستشراق! هذا والحميديُّ نفسه لم يجزِم بما قالَ في كلامه السَّالف، إنَّما ظَنَّ ظنًّا! بحسب ما توافرَ لديه مِن نُسَخ وقته، يدلُّ على عدم جزمه قوله: « .. إنْ صَّحَت هذه الزِّيادة، فإنمَّا أخرَجَها البخاريُّ دلالةً على أنَّ عمرو بن ميمون قد أدركَ الجاهليَّة .. » (١).

لكن عجَبي مِن ابنَ الأثيرِ! كيف استجاز الجزمَ بكونِ حكاية ابنِ مَيمونٍ «مِمَّا أُدخِلَ في صحيحِ البخاريِّ» (٢)؟! مع أنَّ مَصدرَ دعواه هو الحُميديِّ ولم يجزم بذلك؟!

وأمَّا استبعادُ (جولدزيهر) أن يُخرج البخاريُّ هذا الخَبرَ في «صحيحِه» لِما فيه مِن نَكارةٍ تُدَّعى في إضافةِ الزِّنا إلى غيرِ مُكَلَّف، وإقامةِ الحَدِّ على البَهائم .. إلخ.

فجواب ذلك لمِن لم يُحط بالأخبار علمًا أن يُقال:

إنَّ القِرَدَة تختصُّ عن أكثرِ الحيواناتِ مِن جنسِ الثَّديِيَّاتِ، باتِّخاذِ ذكورِها لإِناثٍ تَختصُّ بها، أشبه ما يكون بما عندنا نحن البشر مِن ارتباطِ الذَّكَرِ بالأنثى في عقودِ الزَّوَاجِ، بحيث تَلزَمُ أنثى القُرودِ ذَكرًا واحدًا يَختصُّ بها، يمنعُ أن يَنزُوَ عليها غيرُه، بل يَهيجُ غَضَبًا لذلك، لِما رُكِّب فيهم مِن غِيرةٍ مُشابهةٍ لبني آدمَ، وهذا أمرٌ مَعروف عنها منذ القِدَم.

فانظر في تقرير هذه الحقيقة الحَيوانيَّة، إلى قول الجاحظ في وصفِه للقِرَدة: «يُحكى عنه مِن شِدَّة الزَّواجِ، والغِيرةِ على الأزواج، ما لا يُحكَى مثلُه إلَّا عن الإنسان! .. واجتمعَ في القِرْد (الزَّواجُ والغِيرة)، وهما خِصلتان كريمَتان، واجتماعهما مِن مَفاخِر الإنسانِ على سائرِ الحيوان» (٣).


(١) «الجمع بين الصحيحين» (٣/ ٤٩٠).
(٢) «أُسد الغابة» (٣/ ٧٧٢).
(٣) «الحيوان» (٤/ ٣٠٩).

<<  <  ج: ص:  >  >>