للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وغالبُ القِرَدَة لا تُعدَمُ مَخالبَ وأنيابًا تقتلُ بها كالمُفتَرِساتِ، فـ «منها ما يَعَضُّ، ومنها ما يخدش، ومنها ما يَكسِر ويُحطِّم، والقرودُ ترجُم بالأكُفِّ الَّتي جَعَلها الله لها، كما يرجُم الإنسان» (١)؛ وبِذلك تَوسَّلَت لقتلِ القِردَيْنِ الخائنينِ في خبرِ ابنِ ميمون.

ومثلُ هذه العقوبات الانتقاميَّةِ مِن الذَّكورِ على مَن اعتدى على خصوصِيَّتِها الجِنسيَّةِ، قد شاهدَه النَّاسُ في زمانِ ابن تيميَّة (ت ٧٢٦ هـ) في غير القرودِ، حتَّى في الطُّيور (٢)!

فحاشا البُخاريَّ أن يُريد بهذا الخبرِ حقيقةَ الزِّنا وحَدِّه في الشَّرع، وإلَّا لأوردَه في كتابِ الحدودِ في باب (رَجم المُحصَن) -مَثلًا- أو (إِثم الزُّناة)، وعنده في هذين مِن أحاديثِ النَّبي صلى الله عليه وسلم وأقوالِ صحابتِه ما فيه غُنيةٌ له عن روايةِ رجلٍ في جاهليَّتِه.

إنَّما أوتي المُعترض على البخاريِّ في هذا الخبر: مِن ظنِّه أنَّ كلَّ خَبرٍ يورِدُه الأئمَّة في مُصَنَّفات الحديث هو دِينٌ، يُراد به تشريعٌ أو عقيدة! والحالُ أنَّ المحدِّثين قد يَرْوُون في جوامعهم ما يخرُج عن هذا، فيسوقونَ أخبارَ تاريخيَّةً، منها أحوالُ النَّبي صلى الله عليه وسلم قبل البِعثة، وأحاديثُ صِفاتِه الخِلْقِيَّة، وهذان ليسا مِن التَّشريع في شيءٍ؛ أو أخبارَ الجاهليِّين اعتِبارًا أو استظْرَافًا؛ وهنا ساق البخاريُّ أثرَ عمرو بن ميمون! حيث أخرجه في بابِ (أيَّام الجاهليَّة) مِن كتابِ المَناقب.

ووَجه المناسبةِ بين أثر ابن ميمونٍ وبين ترجمةِ البابِ لا تخفى: فالقصَّة فيها تحكي أمرًا غريبًا وَقَع في الجاهليَّة؛ وقوله فيها: « .. فرجمتُها معهم» (٣): دلالةٌ لطيفةٌ على عظيمِ قُبحِ خيانةِ العَشيرِ عند العربِ مع جاهِلِيَّتِها، حتَّى استحقَّ فاعلُها عندهم شديدَ العِقاب.


(١) «تأويل مختلف الحديث» لابن قتيبة (ص/٣٧٣).
(٢) «مجموع الفتاوى» (١١/ ٥٤٥)
(٣) أخرجه أبو نعيم في «معرفة الصَّحابة» (٤/ ٢٠٤٧).

<<  <  ج: ص:  >  >>