الخفيفين -مثلًا- ويقول: إنَّه مَذهب مالكٍ! ويَخفى ذلك على حُفَّاظِ مَذهبِه؛ فكذلك لا يُمْكِنُ أحدًا أن يزيدَ في «صحيح البخاريِّ» حديثًا مُختلقًا ويَخفى على أهلِ الحديثِ بعده!
الوجه الثَّاني: أنَّ النُّسَخ المختلفةَ لـ «صحيحِ البخاريِّ» كالرُّواةِ المُختلِفين، واتِّفاقُها يَدلُّ على صِحَّةِ ما فيها عن البخاريِّ قطعًا كما قدَّمنا.
فإنَّك إذا وَجَدتَ الحديثَ في نُسخةٍ منه نُسِخَتْ باليَمنِ، ووَجدتَه في نُسخةٍ نُسِخَت بالمغرب، وفي الشَّامِ وغيرِها مِن أقطارِ الإسلام؛ ثمَّ وَجَدْتَه أيضًا في شروحِ «الصَّحيح» الَّتي صُنِّفت قريبًا منه، كشرحِ أبي سليمان الخَطَّابي (ت ٣٨٨ هـ)، فإنَّ هذا أدركَ الَّذين رَووا الكتابَ عن شيوخِهم عن البخاريِّ روايةَ نَسخٍ ومُطابقةٍ، وشرحُه أثبت فيه كِتابَ البخاريِّ بشكلِه المُتداوَل، فيكون نفسُ شرحِه نُسخةً مِن الكتاب، بل كلُّ شروح البخاريِّ المُتقدِّمة تُعتبر نُسَخًا صحيحة منه.
ثمَّ وَجدتَه أيضًا في المُستخرَجاتِ على «البخاريِّ» الجامعةِ لمِا فيه، كـ «المُستخرجِ» للإسماعِيليِّ (ت ٣٧١ هـ) عليه، وهي الَّتي تأتي إلى الأحاديثِ الَّتي رَوَاها البخاريُّ، وتَرويها بأسانيدَ تلتقي فيها مع البخاريِّ في شيخِه أو شيخِ شيخِه.
فلا شكَّ أن النَّاظرَ في هذا كلِّه لن يُعدَم العلمَ الضَّروريَّ باستحالةِ تَواطؤِ رُواة هذا الكتاب على مَحضِ الكذبِ والمُباهَتةِ، لأنَّه يَستحيلُ اجتماعُهم واتِّفاقُهم على ذلك، لِتباعُدِ أزمانِهم وبُلدانهم، واختلافِ أغراضِهم ومَذاهبِهم.
الوجه الثَّالث: أنَّ الأمَّة قد أجمَعَت على جوازِ إسنادِ ما في «الجامعِ الصَّحيحِ» إلى محمَّد بنِ إسماعيل البخاريِّ؛ وذلك أنَّ العلماءَ ما زالوا يَقولُون في كُتبِهم: هذا الحديثُ رواه البخاريُّ، أو رواه مسلم، أو اتَّفَقا عليه، مِن غير نكيرٍ في هذا على الرَّاوي، مع كثرةِ وقوعِ هذا منذ صُنِّفَت هذه الكتبُ، إلى هذا التَّاريخ، وذلك قريبٌ مِن ألفٍ ومائتي سنةٍ، والإجماعُ حُجَّة قاطِعةٌ للتَّشغيبِ الَّذي اشتهرَ به المُعترض، ومُزيلةٌ للتَّشويشِ الَّذي أورَدَه (١).
(١) انظر هذا الوجه في «العواصم والقواصم» لابن الوزير (١/ ٣٠٤ - ٣٠٥).