الوجه الرَّابع: أنَّ المُعترضِ إن غَبِيَ عن تفهُّمِ ما قدَّمناه مِن بيِّناتٍ، فلعلَّ الأنسبَ لمثلِه أن يُفهَّم بضربِ مثالٍ واقعيٍّ، يُعلِمه كيف أزرى بنفسِه حينَ اشترطَ توقيعَ المُؤلِّف على الكتاب بخطِّ بيده، وذلك بأن يتخيَّل نفسَه:
قد دَخَلَ مكتبةً عالميَّةً مَرموقةً، أو دارًا للنَّشرِ مَطروقةً، على رفوفِها أوقارُ أسفارٍ في شَتَّى أودِيةِ العلوم، فلَاحَ له منها كتابُ «الجمهوريَّة» لأفْلاطون (ت ٣٤٧ ق. م)، وكتابُ «الأمير» لمِيكْيَاّيلي (ت ١٥٢٧ م)، فلم يلبَث حتَّى تَوَجَّه بهما إلى قَيِّم الخزانةِ قائلًا: إنِّي لا أعترِفُ بصحَّةِ هذين الكِتابين، حتَّى تُخرِجوا لي نُسخةً أصليَّةً لكلِّ واحدٍ منهما كَتبها المؤلفُّ بخطِّ يَده! بل لا أعترفُ بأيِّ كتابٍ حَوَته خِزانتُكم إلَّا بهذا الشَّرط، حتَّى اطمئنَّ إلى العَزوِ إليه!
فحدِّثني -بالله عليك-: عن أيِّ لونٍ أو صورةٍ تخيَّلتَ بها وَجهَ قيِّم الخزانةِ وهو يُلطَم بهذا الكلام؟! وقد تجاوزَ هذا المُتحذلِقُ جميعَ الأعرافِ الإنسانيَّة، والمَسالكِ العلميَّة، الَّتي تضمَنُ سَلامةَ الكُتبِ، وعدمَ انتِحالهِا في عصرِنا الرَّاهن!
الوجه الخامس: أنَّا لو افترضَنا جَدلًا ظَنِّيَةَ نسبةِ ما في «صحيح البخاريِّ» إليه، فإنَّه مع ذلك يستحيلُ وَصمُ ما فيه مَعزُوًّا إلى النبَّي صلى الله عليه وسلم بالكذبِ، لأنَّ البخاريَّ لم يَتَفرَّد أصلًا بروايةِ حديثٍ نَبويٍّ دون سائرِ الأئمَّةِ، بل هي نفسُها مُفرَّقةٌ عند غيرِه في كُتبِ السُّنَن والمَعاجم والمَسانيد والأجزاءِ ونحوِها؛ فأكثرُ أحاديثِ البخاريِّ لها العشراتُ مِن الطُّرقِ في كُتبِ الحديثِ المُختلِفة، ولله الحمد.
فأيُّ طائل وراء هذا التَّشغيب والتَّشكيك في نُسخ البخاريِّ؟!