للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وقد كان من الطَّبيعي أن يَنحاز دُعاة تنقيةِ «الصَّحيحين» -بمَا يزعمونه فيهما مِن أباطيل- إلى رأي النَّووي الَّذي ارتأى حصر أحاديث الكتابين في نطاقِ الظَّن كباقي الآحاد، مستبعدًا القول بقطعيَّتها، فلذلك لا تجد أحدًا من هؤلاء المعاصرين تخلو نقداته للكتابين من التَّمهيد بتقرير هذا الرَّأي من النَّووي، لمِا لكلام هذا الجِهبذ من هيبة علميَّة كبيرة في نفوس المسلمين.

يقول (جولدزيهر) عن جامع البخاريِّ: «كان الاحترام للكتاب في مجموعه، ولكن ليس لسطوره المنفردة وفقراته، ولهذا الاحترام جذور في إجماع الأمَّة، يقول الشَّيخ ابن الَّصلاح: بأنَّ ما رواه الشَّيخان أو أحدهما هو صحيح مقطوع بصحَّته، وأنَّ العلم القاطع يتبع منه، ولكنَّ باحثين عن الحقيقة ومعظم الدَّارسين يناقضون الشَّيخ في الأمر، ويقولون: إنَّ الظَّن هو الأصل، طالما أنَّ التواتر لم يتأكَّد، هذه الكلمات للنَّووي» (١).

وكان هذا المُسوِّغُ ملجأً لبعضِ أقطابِ الدَّعوةِ الإسلاميَّة المعاصرة في سعيِهم إلى تجديدِ الدِّين، وتنحيةِ مَا يرونَه دخيلًا يُودي بصورةِ الإسلامِ شوهاءَ في نظرِ الغربِ؛ أظهر من تلمحُ منه هذا (محمَّد الغزاليُّ) في ما سطَّره ردًّا على من عابَ عليه طعنَه في بعضِ أحاديث «الصَّحيحين»، حيث أعتذر عمَّا بَدَر منه في حقِّها بكونِ «الحديث الصَّحيح الآحاديِّ ليس مَقطوعًا بصحَّته، سواءً كان في الصَّحيحين أو غيرهما، وصحَّته ثابتة بطريق غلبة الظَّن ما دام غير مُتواتر، ولا مُدعَّما بالقرائن المؤيِّدة» (٢).

وبهذه الاعتذار نفسه اعتَّل مَن اقتفى خطوَه في الطَّعنِ بما صَحَّحه الشَّيخانِ، بل جاوزه في هذا الخَطو كثيرون! منهم (محمد بن سعيد حوَّا) الَّذي أعلن صراحًا بأنَّ الحديث ما دام ظنِّيًا، فلا مانع مِن احتمالِ رَدِّه ولو كان في أحدِ «الصَّحيحين»، أو مُتَّفقًا عليه مِن الشَّيخين (٣).


(١) «دراسات محمدية» لجولدزيهر (ص/٢٣٦ - ٢٣٧).
(٢) «تراثنا الفكري في ميزان الشرع» (ص/١٧٣).
(٣) في مقالة له بعنوان «قراءة في شخصية النَّبي الإنسان» بجريدة «الدستور» الأردنية (بتاريخ ٢٥/ ٢/٢٠١٠ م، العدد: ١٥٣٠٩).

<<  <  ج: ص:  >  >>