للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لكن لمَّا كان النَّاظر في مثل هذه الأخبار يحتاج إلى جهدٍ في استقراءِ الطُّرق والشَّواهد، وأحوالِ الرُّواة والمتون، كَيْ يطَّلِع على تلك القرائن العائدِ مُجملها إلى المُخبِر، وبعضُها يرجع إلى المُخبَر عنه، وبعضها يرجع إلى المُخبَر بِه: كان الحُكم بالقطعيَّة بهذه المثابةِ لا يُتأتَّى لأيِّ أحدٍ، ولا يلزم اطِّراد هذا الحكم لجميع مَن وقف على ذاتِ الخَبر.

فلا يُستشكَل -إذن- عدمُ إفادتها للعلمِ لبعض العلماء غير ذوي التَّخصَّص الحديثيِّ، فإنَّما تُدرَك الكليَّات باستقراء الجزئيَّات، وهذه القرائنُ إنَّما عالجها المُحدِّثون حتَّى صاروا أحَقَّ بها وأهلَها، فما مِن حديثٍ إلَّا وتجدُ لأهل الحديثِ فيه حُكمًا مع إحاطةٍ واسعةٍ بالطُّرق، وطبقات الرُّواة، ومداخل الوَهم، حتَّى كانوا أدرى النَّاس بلسانِ النَّبي صلى الله عليه وسلم وحالِه «١).

وفي هؤلاء يقول ابن القيِّم: « .. إنَّما يعلم ذلك: مَن تضَلَّع في معرفة السُّنَن الصَّحيحة، واختلطت بلحمِه ودمِه، وصارَ له فيها ملَكة، وصارَ له اختصاصٌ شديدٌ بمعرفةِ السُّنَن والآثار، ومعرفةِ سيرةِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهديِه فيما يأمر به، وينهى عنه، ويُخبر عنه، ويَدعو إليه، ويحبُّه ويكرهه، ويَشرعه للأمَّة، بحيث كأنَّه مُخالِط للرَّسول صلى الله عليه وسلم كواحدٍ من أصحابِه» (٢).

وأمَّا مَن نحى خلافَ هذا الأصل الَّذي قرَّرناه صوابًا مِن بعض علماء أهل السُّنة، مِمَّن يظهر مِن كلامِه المنعُ من تأثير القرائن في التَّصديقِ مطلقًا، فإنَّ قصده نفي القطعيَّة عن قرائن معيَّنة لا عن كلِّها، أو يكونَ بعضهم قد استبعدَ تحقُّقها من جهة الواقع، لانتفاء التَّجربة الدَّالة على ذلك في واقع النَّاس (٣)، وإن كان جنس تأثيرها مُسلَّمًا عندهم (٤)؛ والله أعلم.


(١) انظر «مجموع الفتاوى» (١٨/ ٦٩ - ٧٠)، و «مختصر الصواعق المرسلة» (ص/٥٦٤).
(٢) «المنار المنيف» (ص/٤٤).
(٣) قد صرح بمثله الغزالي في «المستصفى» (ص/١٠٩).
(٤) انظر «القطعية من الأدلة الأربعة» (ص/٣٣١).

<<  <  ج: ص:  >  >>