وأمَّا الجواب عن اللَاّزم الثَّالث في دعوى أنَّ الجزم بأخبار «الصَّحيحين» يقتضي عصمة صاحبيهما:
فإنَّ عدم عِصمة الشَّيخين تُنتج احتمال الخطأ، لا الجزم بالخطأ! وهذا الاحتمال ارتفع بتواتر أنظار النُّقاد على كتابيهما طيلة قرون؛ فما في «الصَّحيحين» لم يُفِدنا العلمَ بصحِّته لمجرَّد أنَّهما مِن تصنيفِ البخاريِّ ومسلمٍ؛ فما نبس بهذا أحدٌ من أهلِ الفهم، وما ينبغي للعاقل أن يقولَه، بل هذا الحكم نتاجُ تراكمِ مُعطياتٍ علميَّة أخرى أفادت أحاديث الكتابين ذلك، أي أنَّ مُتعلَّق العصمة هو نظر الأُمَّة إلى كِتابيهما، لا شَخصا البخاريِّ ومسلم! ونتيجةً لعدمِ إدراكِ هذا الفرق، دخل الالتباس على من يعترض بهذه الشُّبهة.
ثمَّ إنَّا قد قدَّمنا أنَّ أهلَ النَّقد قد خَطَّؤوا الشَّيخين في مَواضع من كِتابيهما، وكان الرَّاجح في مَواضع منها قول مَن خطَّأهما -وإن كان نادرًا-؛ ولذلك نقول على وجه الدِّقة:(جمهور) أحاديث الصَّحيحين تفيد العلم، أو: أحاديث الصَّحيحين مقطوع بصحَّتها (في الجملة) لا مطلقًا.
فها نحن ذا نُثبت أخطاء في الصَّحيحين! فأيُّ مَحلٍّ مِن الإعرابِ يبقى لذكرِ العِصمة هنا؟ وأيُّ حقِّ أريد به باطل أبين مِن هذه المُغالطة؟! فلَكَم ارتُكِبت في هذا الزَّمان مِن جرائم في حقِّ العلمِ وأهلِه بهذه الذَّريعة:
يُتطاوَل على جَنابِ الصَّحابة رضي الله عنهم، بحجَّةِ عدم عِصمتِهم!
ويُغمَط فقهُ الأئمَّة الأربعة، بحُجَّة عدم عِصمتِهم!
وتُنقَض أصول العلوم الإسلاميَّة، بحجَّة أنَّها نتاجُ بشريٌّ غير مَعصوم!
وهكذا يُطعَن في «الصَّحيحين»، بحُجَّة أنَّ الشَّيخينِ غيرُ مَعصومين!
وكأنَّ نَفْيَ العِصمةِ عن هؤلاء الأكابرِ، يُبيح للأصاغرِ الكلامَ فيما ليس لهم به علمٌ، مع جرعةٍ زائدة مِن قلَّةِ الأدبِ!
ولسنا في المُقابل نمنعُ تخطئةَ العلماء ونقدَ نتاجِهم عمَّن كان مُؤهَّلًا بدعوى أنَّ لحوم العلماء مسمومة! كما لا نَدَّعي أنَّ الدَّعوةَ إلى تنقيةِ التُّراث الإسلاميِّ في