للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الملاحظاتِ المباشرةِ لأقرانهم للواقعةِ ذاتِهما، مع ملاحظةِ العَدالة ومُشامَمَةِ الدِّيانة، ليخلُصوا بمجموعِ ذلك إلى الحكم الأدقِّ على ضبطِهم للأخبار (١).

لقد أدرك المحدِّثون منذ الصَّدر الأوَّل ما للإسناد من أهميَّةٍ بالغةٍ في الصِّناعة التَّوثيقيَّة؛ فهو مُرتكزُها الأساس في الحكمِ على الأخبار النَّبويَّة، وإلزامُهم به يَسَّر عليهم الكشف عن مَصدر الخبر؛ فلذا كان التَّفتيش عنه مُبكِّرًا، ظاهرًا في آخر زَمنِ الصَّحابة رضي الله عنهم وكبارِ التَّابعين، ثمَّ ازدادَ الإلحاح في طَلبِه بعد جيلِ هؤلاء لشيوعِ الوَضع، وتكاثر أهلِ الأهواء، وتَقالِّ الوَرَع، حتَّى أصبحَ الإخبارُ بمصدرِ الخَبَرِ لا مَناصَ للرَّاوي عنه إذا أراد لرواياتِه القَبول.

وفي تقريرِ هذا المنهج وَرَد مَشهورُ قولِ ابنِ سِيرِين (ت ١١٠ هـ): «لم يكونوا يسألون عن الإسناد، فلمَّا وقعت الفتنة، قالوا: سمُّوا لنا رجالكم، فيُنظر إلى أهل السُّنة فيؤخذ حديثهم، ويُنظر إلى أهل البِدع فلا يؤخذ حديثهم» (٢)، يعني بالفتنة هنا: مقتل عثمان رضي الله عنه (٣).

وبهذا نتحقَّق أنَّ دعوى التَّقليلِ مِن قيمةِ الإسنادِ، بالاقتصارِ في النَّقد الحديثيِّ على مُجرَّدِ اختبارِ المتونِ بالعقول: هو في حقيقته شَيْنٌ للمنهجِ العقليِّ نفسِه، فإنَّ مِن غير المَعقولِ إثباتُ مَقولٍ إلى قائلٍ بمجرَّد نقدِ دلالة متن ذاك المَقال، اللَّهم إلَّا إن كان غرض هذا النَّقدِ النَّظرُ في استقامةِ المتنِ من حيث هو، فلا علاقةَ لهذا بما نحن بصَددِه من توثيقِ الرِّوايات؛ مع أنَّ أكثر المتونِ لا يُقدَر على مَعرفةِ استقامتِها أو فسادِها في ذاتِها، لانتفاء المانِع مِن نِسبتِها إلى الشَّارع، فـ «مِن المستحيل إذن استعمالُ العقلِ -مِن النَّاحيةِ العقليَّة نفسِها- في تقويمِ كلِّ حديث» (٤).


(١) انظر «منهج النقد عند المحدثين مقارنا بالمنهج الغربي» لأكرم العمري (ص/٢٧ - ٣٨).
(٢) مقدمة «صحيح مسلم» (١/ ١٥، باب: في أن الإسناد من الدين)
(٣) انظر «الإمام الزهري وآثاره في السُّنة» لحارث الضاري (ص/٣١٤)، وفيه ذكر لجملةٍ من الأسباب التي تعزز تفسير الفتنة بمقتل عثمان رضي الله عنه.
(٤) «منهج النَّقد عند المُحدِّثين» لمحمد مصطفى الأعظمي (ص/٨١)، وانظر أيضا «مَرويات السِّيرة النَّبوية بين قواعد المُحدِّثين وروايات الأخباريين» لأكرم العمري (ص/١٧).

<<  <  ج: ص:  >  >>