للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

والحقيقةُ ما أوضحناه لك، أنَّ المُحدِّثين فعلًا قد تَفحَّصوا سند الحديثِ ومتنَه، وأنَّ نقْدَهم للسَّند في حقيقتِه هو لمصلحةِ المتن، لكن آثروا بيانَ ما في سَنَدِ الرِّواية المُنكرة مِن كذَّاب أو مَتروك، دون تكلُّفِ شرحِ ما في المتنِ مِن عيوب، اكتفاءً ببُطلانِ مَصدرِها عن إبطالِ مَخبَرِها؛ وهذا - كما قلنا - في الغالبِ.

ولكن لمَّا غفل بعضُ المعاصرين عن هذه العادة، ظنُّوا أنَّ المُحدِّث ليس له أن يَتَعرَّض للنَّقدِ مِن جهة المَتنِ أصلًا! وكأنَّهم تَوَهَّموا ذلك مِن حصرِ بعضِ مَن كَتَب في علمِ المصطلحِ وظيفةَ المُحدِّثِ في نقدِ الإسنادِ فقط (١)، وقول بعض المُحقِّقين أنَّ صِحَّة الحديثِ إنَّما تُحصَّلُ بمعرفةِ الرُّواة ومَراتبهم (٢)!

غير أنَّ في هذا الإطلاقَ نظرًا! ولو أنَّا سلَّمنا صِحَّتَه، فإنَّ مَبناه على الغَالب الأعمِّ لا مطلقًا، ويكون مَقصودُ مَن أطلقَه: أنَّ النَّقدَ مِن جهةِ الإسنادِ هو مِن خَصائصِ المُحدِّث المُتأخِّر خاصَّة، لمِا قَرَّرنا آنفًا من أنَّ أغلبَ ما تَجيءُ المَناكيرُ في المتونِ مِن جِهةِ الضُّعفاءِ والمَتروكين، فاكْتُفِي بالرُّسومِ الإسناديَّة في حَدِّ الصَّحيح، لكونِ مَراتِب الرُّواةِ مُبتَناةٌ من الأساس على سابق نَظرٍ المُتقدِّمينَ في مُتونِ مَرويَّاتِهم.

لكنْ إذا ما استبانَ للمُحدِّثِ مخالفةُ متنٍ لواقعٍ قطعيٍّ، فإنَّ «اعتبارَ الواقعِ حينئذٍ أَوْلى مِن المَشيِ على القَواعدِ، وإنَّما القواعدُ للفَصلِ فيما لم يَنكشِف أمرُه مِن الخارج على وجهِه» (٣).

فالحقُّ أن يُقال هنا:

أنَّ أئمَّةَ الحديثِ كانوا حقًا أدقَّ نظرًا، وأبعدَ غورًا، وأهدأ بَالًا، حين لم يَجرُوا في نقد المتنِ الأشواطَ البعيدةَ الَّتي جَرَوها في نقدِ السَّند؛ ذلك لاعتبارٍ


(١) كما يُفهم من عبارة لابن القطَّان الفاسي في «بيان الوهم والإيهام» (٥/ ٣١٧)، ولابن حجر في «نكته على مقدمة ابن الصَّلاح» (١/ ٤٥٤).
(٢) انظر «شرح علل التَّرمذي» لابن رجب (٢/ ٤٦٧).
(٣) «فيض الباري» للكشميري (٤/ ١٣٠).

<<  <  ج: ص:  >  >>