للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

القسم الثَّاني: المناسبة الخَفيَّة: وهذه الَّتي تحتاج إلى سِعة علمٍ، وتَوقُّدٍ ذِهنيٍّ حاضر، فآثَرَها البخاريُّ على ما ظهر من التَّراجِم، حيث اقتصَرَ على ما يدلُّ بالإشارةِ، وحَذَف ما يدلُّ بالصَّراحةِ، وهذه الَّتي يَعِزُّ على الأكثرين دَرْكُها، حتَّى سُمِّيت بـ «التَّراجم الاستنباطيَّة» (١).

فهذا النَّوع مِن التَّراجِم عند البخاريِّ أجلُّ أنواعِ تراجمه وأنفسِها، حتَّى كانت عادتَه الأشهرَ في تَبويباتِ كتابِه، والصِّفةَ السَّائدة فيها؛ وفيها يقول ابن حَجر: «ظَهَر لي بالاستقراء مِن صَنيع البخاريِّ، اكتفاءُه بالتَّلويحِ عن التَّصريح .. ، قال: وقد سَلَك هذه الطَّريقة في مُعظَمِ تَراجِم صحيحِه» (٢).

فمَن أنْعَم النَّظَر في هذه التَّراجم، وقُدِّر له أن يَتَصَفَّحها ويَتلَمَّحها برَويَّةٍ، مُستَعينًا في ذلك بما سَطَّره شُرَّاح الحديثِ، استطاعَ أن يُمسِك بالحبلِ الرَّابطِ بينها، فلَاحَ له عن كثبٍ مَغزى البخاريِّ منها.

وثمَّة تَنويعٌ ثانٍ نفيس لتراجمِ البخاريِّ في «صَحيحِه»: وهو ما نحى إليه أبو الحسن السِّندي (ت ١١٣٨ هـ)، يقربُ أن يكون جمعًا بين كِلا الجِهتين السَّالِفتين في التَّقسيمِ الأوَّل: جِهة المُطابقة، وجهة الإدراك، يُعينُ على حَلِّ كثيرٍ مِن الإشكالاتِ الَّتي قد تَكتنِف علاقةَ بعضِ التَّراجم بمُترجَمِها عند بعضِ النَّاظرين، يقول فيه:

«اِعلم أنَّ تراجِمَ الصَّحيحِ على قِسمين:

١ - قِسمٌ: يذكرُه لأجلِ الاستدلالِ بحديثِ البابِ عليه.

٢ - وقِسمٌ: يذكره ليُجعَل كالشَّرح لحديثِ الباب: فيُبيِّن به مُجمَل حديث الباب -مثلًا- لكونِ حديثِ البابِ مُطلقًا قد عُلِم تقييدُه بأحاديث أُخَر، فيأتي بالتَّرجمةِ مُقيَّدةً، لا ليستدِلَّ عليها بالحديثِ المُطلَق، بل ليُبيَّن أنَّ مُجمَل الحديث هو المُقيَّد، فصارَت التَّرجمةُ كالشَّرحِ للحديث.


(١) «الإمام البخاري وفقه التَّراجم في جامعه الصَّحيح» لنور الدِّين العتر (ص/٧٤).
(٢) «فتح الباري» (١/ ٨).

<<  <  ج: ص:  >  >>