للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

والشُّرَاح جَعَلوا الأحاديثَ كُلَّها دلائل لمِا في التَّرجمة، فأشكَلَ عليهم الأمرُ في مَواضع، ولو جَعَلوا بعضَ التَّراجم كالشَّرحِ، تخلَّصوا من الإشكالِ في مَواضع» (١).

فلِلْغَفلةِ عن مثلِ هذه المَقاصد الدَّقيقة، «اعتَقَد مَن لم يُمعِن النَّظرَ، أنَّ البخاريَّ تَرَك الكتاب بلا تَبيِيضٍ» (٢) -وقد أسلفنا التَّنبيه إلى غلطه- ومَن تأمَّل ظَفَر!

الفرع الثَّاني: الحِكمة مِن إيثارِ البخاريِّ للتَّلميحِ دونَ التَّصريحِ في أكثرِ تَراجِمه.

اختارَ البخاريُّ هذا النَّمط مِن التَّلميحِ في تراجم أبواب كتابه، شحْذًا منه لعقلِ قارِئ كتابِه، وتَدريبًا لفهمِ طلبةِ الحديثِ على الاستنباطِ، وصقلًا للمَلَكاتِ في ذلك، وتنبيهًا على مَواطن العِلَّة؛ وفي تقرير هذه المَقاصد التَّربويَّة الجليلة يقول المُعَلِّمي: «لِلبخاريِّ رحمه الله وُلوعٌ بالاجْتِراءِ بالتَّلويح عن التَّصريح، كما جَرى عليه في مَواضع مِن جامِعِه الصَّحيح، حِرصًا منه على رياضةِ الطَّالب، واجتذابًا له إلى التَّنبُّهِ والتَّيقُّظِ والتَّفهُّمِ» (٣).

وقد وَجدنا العلماءَ قديمًا وهم يَنْعَمون بمثلِ هذا الحِسٍّ الرَّائقِ في تَلقين العلم، فيتَفنَّنون في تَقليبِ المادةِ العِلميَّة على وجوهٍ مُختلِفةٍ، حِرْصًا على استنهاضِ مَلَكةِ الاستحضارِ في الطَّلَبة.

فكان مِن طرائقِ ذلك عندهم -مثلًا-: أن يُورِد الشَّيخ آيةً، ثمَّ يَستفزَّ أذهانَ الطُّلابِ لذكرِ كلِّ ما يَتَعلَّق بها، تفسيرًا وفِقهًا وحديثًا ولُغةً (٤)؛ وهذه الطَّريقة


(١) حاشية السندي على «صحيح البخاري» (١/ ٥).
(٢) «هُدى السَّاري» لابن حجر (ص/١٤).
(٣) مقدِّمته لتحقيق كتاب «مُوضِّح أوهام الجمع والتَّفريق» للخطيب (١/ ١٤).
(٤) وقد كان يسلك هذه الطَّريقة في التَّعليمِ إبراهيم بنُ جماعة في تمرينِه لتلامذتِه، يقول ابن حَجر في «رفع الإصر عن قضاة مصر» (ص/٢٩): «ذَكَر لي القاضي جلال الدِّين البلقيني، أنَّه حضر دروسَه، ووَصَفه بكثرةِ الاستحضار، قال: وكانت طريقتُه أنَّه يُلقي الآيةَ أو المسألة، فيَتَجاذب الطَّلبةُ القولَ في ذلك والبحث، وهو مُصْغ إليهم، إلى أن يَتَناهى ما عندهم، فيَبتدئ فيُقرِّر ما ذكروه، ثم يَستدرك مَا لم يَتَعرَّضوا له، فيُفيد غرائبَ وفَوائد».

<<  <  ج: ص:  >  >>