للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

النَّافعة لتنميِة مَلَكة الاستحضارِ لا تَصلحُ إلَّا بإزاءِ شَيخٍ مُتمَكِّن في مثل مقام البُخاريِّ!

الفرع الثَّالث: ألوانٌ من خفيِّ تراجم البخاريِّ الدَّالةِ على غَوْصِه في المعاني واستحضارِه للأدلَّة.

لقد ألْفَى المُحقِّقون من أهل المعرفة بـ «الصَّحيح» هذه المناسباتِ الخفيَّة فيه عدَّةَ أنواعٍ:

فمنها: أن يكون في التَّرجمةِ لفظٌ يُفيد مَعنىً مُعيَّنًا لا ذِكر له في الحديث الَّذي أثبَتَه، لكن يكون هذا الحديث ذا طُرقٍ، أثبتَ منها البخاريُّ ما يُوافق شرطَه في كتابه، ولم يُثبته مِن الطَّريق الموافقةِ للتَّرجمة، لقصورِ شَرطِها عن شَرطِه، فيأتي بالزِّيادةِ الِّتي لم تُوافق شرطَه في التَّرجمة.

كما أنَّه كثيرًا ما يَذكرُ التَّرجمةَ بخلافِ لفظِ الحديث، ويكون الغَرَض منه: الإشارةُ إلى اختلافِ ألفاظِ الرِّوايةِ الواردةِ في الباب، وهذا مُطَّرد في كتابه (١)؛ فيظنُّ الجاهلُ بالرِّوايات أنْ لا علاقةَ بين ما في التَّرجمةِ والحديث! ومثل هذا لا يَنتفِعُ به إلَّا المَهَرة مِن أهلِ الحديث.

مثل ما أوردَ من حديثِ الخوارج: ««إنَّ مِن ضِئْضِئِ هذا قومًا يَقرءون القرآنَ، لا يُجاوز حَناجِرَهم .. »؛ أورده البخاريُّ في بابِ «قول الله تعالى: {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ}، وقوله تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ}» (٢).

فقد بيَّن العَسْقَلانيُّ أنَّ حديث الخوارج هنا جاءَ في بعضِ رواياتِه -غير الرِّواية الِّتي ساقها البخاريُّ في الباب المذكورِ- بلفظ: «ألَا تأمنُوني وأنا أمينُ مَن


(١) مثاله في «المتواري» لابن المنير (ص/٢٧٣).
(٢) «صحيح البخاري» (٧/ ١٨٦).

<<  <  ج: ص:  >  >>