للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فهذا عن ختم البخاريِّ للكتابِ الواحد من «صحيحِه».

أمَّا عن اختتامِه لصحيحِه كلِّه: فقد جاء الحديث فيها مُتناسبًا مع أوَّلِ حديثٍ صَدَّر به «الصَّحيح»، تناسبًا يُبقِ لمن تأمَّله أثرًا بليغًا يوجب رِقَّة في قلبِه، يقول العَينيُّ في بيانِ سَبَبِ بَدْءِ البخاريِّ الكتابَ بحديثِ «إنَّما الأعمال بالنِّيات»: «أرادَ بهذا إخلاصَ القَصدِ، وتصحيحَ النِّية، وأشارَ به إلى أنَّه قَصَد بتأليفِه الصَّحيحَ وجهَ الله تعالى، وقد حَصَل له ذلك، حيث أُعْطِي هذا الكتابُ مِن الحَظِّ ما لم يُعْطَ غيره مِن كُتبِ الإسلام، وقَبِلَه أهلُ المَشرق والمَغرب» (١).

أمَّا عن آخر حديثٍ خَتم به «صحيحه»، فهو حديثِ أبي هريرة رضي الله عنه: «كلِمتان حبيبتان إلى الرَّحمن، خَفيفتان على اللِّسان، ثَقيلتان في الميزان: سُبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم»، حيث جعله آخرَ بابِ: قوله تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} [الأنبياء: ٤٧]، مِن كتاب (التَّوحيد):

فوجه تناسبه مع الحديث الأوَّل في النِّيات، قد أبانَ عن حُسنِه البُلقيني بقولِه:

«لمَّا كان أصل العِصمة أوَّلًا وآخرًا هو توحيد الله، فختم بكتاب التَّوحيد، وكان آخر الأمور الَّتي يظهر بها المُفلح من الخاسر ثقلُ الموازين وخفَّتُها، فجعله آخر تراجم كتابه ... فبدأ بحديث: «إنَّما الأعمال بالنِّيات»، وخَتَم بأنَّ أعمال بني آدم تُوزن، وأشار بذلك إلى أنَّه إنَّما يُتقبَّل منها ما كان بالنيَّة الخالصة لله تعالى» (٢).

وهكذا قد أبان البخاريُّ بهذا التَّناسب عن (فكرٍ مَنظوميٍّ) بَديعٍ، تَجلَّى في هذه الوحدةِ المَوضوعيَّة المترابطة في كلِّ كتابٍ مِن كُتبه وأبوابِه، ابتنى آخرَها على أوَّلها، وأوَّلها على آخرِها، مُتوخِّيًا في ذلك الكمالَ في هندسةِ كتابِه، على تصميمٍ


(١) «عمدة القاري» (١/ ٢٢).
(٢) «هُدى السَّاري» لابن حجر (ص/٤٧٣).

<<  <  ج: ص:  >  >>