للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يَكفيك مَثلًا على ذلك: براعةُ استهلالِه بكتابِ «بدء الوَحي»، وإتباعُه بكتاب «الإيمان»، ثمَّ «العِلم»، وهكذا حتَّى خَتَم التَّسلسل بكتاب «التَّوحيد».

وإلى هذا النَّوع مِن التَّناسب، كان التِفاتُ البُلقينيِّ (ت ٨٠٥ هـ) فيما كتبه عن «الصَّحيح» عن علاقةِ كُتبِه فيما بينها تقديمًا وتأخيرًا، فكان ممَّا قاله:

«قدَّمَه -أي كتاب بدء الوَحي- لأنَّه مَنبع الخيرات، وبه قامت الشَّرائع، وجاءت الرِّسالات، ومنه عُرف الإيمان والعلوم، وكان أوَّله إلى النَّبي صلى الله عليه وسلم بما يقتضي الإيمان من القراءةِ والرُّبوبية وخلق الإنسان، فذَكر بعدُ كتاب (الإيمان) و (العلوم)، وكان الإيمان أشرفَ العلوم، فعقَّبه بكتاب (العلم)، وبعدَ العلم يكون العمل! وأفضل الأعمال البدنيَّة الصَّلاة، ولا يُتوصَّل إليها إلَّا بالطَّهارة، فقال (كتاب الطهارة)، فذكر أنواعها وأجناسها .. ».

وهكذا حتَّى ساق البلقينيُّ (ت ٨٠٥ هـ) جميعَ كُتبِ» الصَّحيح» بحسب تَرتيبها، مُبيِّنًا وجهَ التَّناسب بينها؛ ليختم ذلك بقوله: «ولمَّا كانت الإمامةُ والحُكم يَتمنَّاها قومٌ، أردَف ذلك بـ (كتابِ التَّمَني)! ولمَّا كان مَدار حكم الحُكَّامِ في الغالب على أخبارِ الآحاد، قال: (ما جاء في إجازةِ خبرِ الواحد الصَّدوق).

ولمَّا كانت الأحكام كلُّها تحتاج إلى الكتاب والسُّنة، قال: (الاعتصام بالكتاب والسُّنة)، وذكر أحكام الاستنباط مِن الكتاب والسنة، والاجتهاد، وكراهية الاختلاف، وكان أصل العِصمة أوَّلًا وآخرًا هو توحيد الله، فختم بكتاب (التَّوحيد) .. » (١).

ثمَّ جاء اعتناء تلميذه ابن حَجرٍ (ت ٨٥٢ هـ) بنوعٍ آخرَ مِن المُناسباتِ، دَلَّلَ به على بَراعةِ الاختتامِ عند البخاريِّ للأبوابِ، وبيَّن أنَّه لم يَرَ مَن نَبَّه عليه، بحيث أنَّ البخاريَّ «يَعتني غالبًا بأن يكون الحديث الأخير مِن كلِّ كتابٍ مِن كُتُبِ هذا الجامع مُناسبًا لختمِه، ولو كانت الكلمةُ في أثناءِ الحديثِ الأخير، أو مِن الكلامِ عليه» (٢).


(١) «هُدى السَّاري» لابن حجر (ص/٤٧٠ - ٤٧٣)
(٢) «فتح الباري» (١٣/ ٥٤٣)، وانظر مثالًا لهذا النوع من المناسبات في «هدى الساري» (ص/٣٥٨).

<<  <  ج: ص:  >  >>