للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الفرع الخامس

مجاوزة عبقريَّة البخاريِّ أوجهَ التَّناسب في التَّراجم

إلى تناسبِ الكُتِب والأبواب فيما بينها وترتيبها

سَيزيدُ انبهارُك بهذه العقليَّة البُخاريَّة وشفوفِ روحِه الإبداعيَّة، حينما تعلمُ أنَّ ما مَرَّ بك مِن أمثلةٍ قليلةٍ في «صحيحِه الجامع» مِن المُناسباتِ، ليس مُقتصرًا على ما كان بين تراجِم الأبوابِ وما ضَمَّته مِن أحاديث وآثار، بل قد طالت يدُ إبداع البخاريِّ الكُتبَ المَوضوعيَّة نفسَها، بالرَّبط فيما بينها من جهة، وبين الأبوابِ في الكتابِ الواحدِ من جهة (١)، بل بين الأحاديثِ في البابِ نفسه من جهة أخرى! فكان يُرتِّبها بحسب الغَرض الَّذي مِن أجله يَسوق تلك الأحاديث.

فتارةً يبدأ بالحديث العَالي، ويُتبعه ذكر النَّازل.

وتارةً يبدأ بالحديثِ المُعنعَن، ثمَّ يردفه بما فيه التَّصريح بالسَّماع.

وتارةً يبدأ بالحديثِ الأكثر دلالةً على الحكم الفقهيِّ، ثمَّ يتبعه بالشَّواهد، وهكذا .. ، كلُّ ذلك وِفقَ منهجٍ مُحكم (٢).

فلقد سارَ في هذا كلِّه على ترتيبٍ مُبتَكرٍ لم يُسبَق إلى مثلِه ولا قُورِبَ، حتَّى أصبح الكتاب عِقْدًا مَنظومًا، ووَحدةً مُتناسقةً مُتكاملةً، يخدم غايةً واحدةً.


(١) كان بدر الدين العَيني في شرحه «عُمدة القاري» أكثر من التزم بيانَ هذا التَّناسب في كتب «الصَّحيح» أكثر من غيره، مع بيانه لنوعِ هذا التَّناسب، انظر بعضا من أمثلته فيه (١/ ٩٩) و (١/ ١٠٠) و (١/ ١٠٣).
(٢) بيَّن ابن حجر بعض أمثلته في «هُدى السَّاري» (ص/٢١٠).

<<  <  ج: ص:  >  >>