للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ثمَّ لْتَلْحَظ أنَّ الرَّوايةَ المُستشكلَة لم تقُل: إنَّ الأنهارَ في الجنَّة، بل فيها: « .. مِن الجنَّة»، ولا يخفى ما في العِبارتين مِن اختلاف في المعنى.

وأمَّا الحديث الآخر: «في أصلِها أربعة أنهار، .. أمَّا الظَّاهِران فالنِّيل والفُرات»:

فالجادَّة أن يُحمَل على معنىٍ لا يُخالف الواقع، فيُقال مثلًا: إنَّ نهرا النِّيل والفُراتِ المُسَمَّيَان في الحديثِ، هما على ما عُرِفا بأعيانِهما في الدُّنيا، وتكون مَادَّتهما ممَّا يَتنزَّل مِن السِّدرة، بطريقةٍ يعلمُها الله وتخفَى علينا (١).

وهذا ما قَرَّره النَّووي من معنى الحديث فقال: « .. إنَّ الأنهارَ تخرُج مِن أصلِها، ثمَّ تَسِير حيث أرادَ الله تعالى، حتَّى تخرُج مِن الأرض وتَسيرَ فيها، وهذا لا يَمنَعُه عَقلٌ ولا شرعٌ، وهو ظاهرُ الحديث، فوَجَب المصيرُ إليه» (٢).

وجائزٌ أيضًا أن يُحمل هذا الحديث على ما حَمَلنا عليه الحديث الأوَّل، بأن يكون مَبدأ هذين النَّهْرين ومصدرهما الأوَّلَ كان مِن الجنَّة، فتكون العبارة مِن بابِ إطلاقِ اسمِ الشَّيء على مَبادِئِه، فإنَّ للنِّيلِ والفُراتِ مَبْدآن في عالم الغَيب، فأطلقَ الوحيُ أساميَ الظَّاهر مِنهما في الدُّنيا، على مَبادئِهما المُغَيَّبة عنَّا (٣).

فهذه أوجه المَعاني الَّتي يُفهَم عليها الحديث، لا تَرى فيها أحدًا مِن أهلِ العلمِ أخَذَ الحديثَ على معنى المَصدَرِيَّة المُباشرةِ لتلك الأنهار؛ ولذا نرى العلماءَ قد تَعَقَّبوا القاضي عِياضًا (ت ٥٤٤ هـ) ظَنَّه أنَّ النِّيل والفُرات ما داما مِن سِدْرة المُنتهى، فأصلُ السِّدرة في الأرض (٤)! وليس هذا بلازمٍ، فإنَّ كونَهما يَخرُجان مِن أصلِها شيءٌ، وخروجَهما بالنَّبعِ مِن الأرضِ شيءٌ آخر -كما قد مَرَّ قريبًا-؛ وإلَّا لَرُئيَتِ السِّدرةُ عند محلِّ خروجِهِما (٥).


(١) «الميسَّر في شرح مصابيح السُّنة» للتُّوربشتي (٤/ ١٢٧٣).
(٢) «شرح النووي على مسلم» (٢/ ٢٢٤).
(٣) «فيض الباري» للكشميري (٤/ ٣١٢، ٥٣٢).
(٤) «إكمال المعلم» (١/ ٥٠٣).
(٥) انظر «شرح النووي على مسلم» (٢/ ٢٢٤)، و «عمدة القاري» للعيني (٤/ ٥٤)، و «كوثر المعاني الدَّراري» للخضر الشنقيطي (٦/ ٣٢٦).

<<  <  ج: ص:  >  >>