للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قلت: ليس في كلامِ ابنِ القاسم رَدُّ مَالكٍ للحديث، بل الثَّابت عنه كما في بعض الرِّواياتٍ تصحيحُه إيَّاه؛ إنَّما الخلاف عن مالكٍ في وجه تأويلِه، لِما في ظاهره من إشكال على بعض الأصول.

ومردُّ ذلك: إلى أنَّ الحديث دَلَّ على وجوبِ غسلِ الإناء مِن ولوغِ الكلبِ فيه، ومُقتضى هذا أنَّ لُعابَه نَجسٌ، والقرآن دَلَّ على حِلِّ صيدِ الكلبِ، بدون غسلِ موضعِ العَضِّ، مع أنَّ لُعابَه مُختلطٌ بالحيوان المَصِيد، ومُقتضى هذا أنَّ لُعابَ الكلب طاهرٌ.

وقد نَصَّ مالكٌ على هذا السَّببِ بقوله: «لا أدري ما حقيقته .. يُؤكل صيدُه، فكيف يُكرَه لعابُه؟» (١).

من هنا جاءت رواية ابن القاسمِ عنه بطهارةِ سُؤرِ الكلبِ، ممَّا يعني أنَّ الحكم الَّذي لم يَأخُذ به مالكٌ مِن الحديث: هو نجاسة الكلب فقط -على المَشهورِ مِن قولِه- لا أنَّه ينكر الحديث؛ بل يأخذ بالغسلِ فيه على وجهِ الاستحبابِ، وأمَّا الأمرُ بعَددِ الغَسلاتِ فتَعَبدٌّ مَحضٌ عنده لا لعِلَّة (٢).

يقول ابن رُشد الجدُّ: «واختَلَف قول مالك في الحديثِ الواردِ في الكلب، فمرَّةً حملَه على عمومِه في جميعِ الكلابِ، ومرَّةً رآه في الكلبِ الَّذي لم يُؤذن في اتِّخاذه، وتفرقة ابن الماجشون بين البدَوِيِّ والحضريِّ قولٌ ثالث» (٣).

فيظهر جليًّا مِن أقوالِ مالكٍ وأصحابِه خُلوُّها مِن إنكارِ الحديثِ (٤)، والاختلاف بينهم كامن في تحديدِ المسلكِ الأرجحِ لدَفعِ ما يبدو مِن تعارضٍ بينه وبين آية صيدِ الكلب، وهذا -لا شكَّ- فرعٌ عن قولِهم بصحَّتِه.


(١) «المدونة» (١/ ١١٦).
(٢) يقول ابن عبد البر في «الاستذكار» (١/ ٢٠٦): «مذهب مالك عند أصحابه اليوم: أنَّ الكلب طاهر، وأنَّ الإناء يُغسل منه سبعًا عبادةً، ولا يُهرق شيء مما ولغ فيه غير الماء وحده، ليسارة مئونته».
(٣) «المقدمات الممهدات» (١/ ٨٩)، وانظر «الجامع» لابن يونس الصقلي (١/ ٨٧).
(٤) وقد نقل الخلاف في هذه المسألة عن مالك أيضًا: القاسم بن سلام (ت ٢٢٤ هـ) في كتابه «الطهور» (ص/٢٧٠) ولم يذكر عنه قولًا بتضعيفِ الحديث فيها.

<<  <  ج: ص:  >  >>