للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لكن يبقى الإشكالُ فيما نقله ابن القاسم عن مالكٍ قوله عنه: « .. وكان يُضعِّفه»! وبها تَشبَّث مَن نَسبَ إلى مالكٍ طعنَه في الحديث؛ ومن يُقلِّب كُتَب مُحقِّقي المالكيَّة، يجدُ جمهورَهم يَدفعون هذا المعنى المُتبادَر إلى بعضِ الأذهانِ أن يكون مُرادًا لإمامِهم.

ترى مثالَ هذا الدَّفعِ في قولِ القاضي عِياض (ت ٥٤٤ هـ): «الأشبهُ عندي أنْ يُريدَ به الوجوبَ، كما نَحا إليه القَابِسيُّ، ويدلُّ عليه: تخصيصُه (الماءَ) بذلك، وأنَّه أعْظَمَ إراقةَ الطَّعامِ؛ ولا حُجَّة لمِن قالَ: إنَّه ضَعَّف الحديثَ بقوله: «ولا أدري ما حَقيقتُه»، فليسَ في هذا ما يَرُدُّه، ولعلَّ المُراد: ما حقيقةُ مَعناه، وحكمةُ الله في هذه العبادة» (١).

وأبو عمران الفاسيَّ (ت ٤٣٠ هـ) (٢) وإن نَحى إلى احتمالِ قصدِ مالكٍ بتلك العبارة تضعيفَ الحديث حقيقةً (٣)، فقد تَعقَّبَه ابنُ رشدٍ الجدُّ (ت ٥٢٠ هـ) في هذا الاحتمالِ وأبطله (٤).

والصَّحيحُ أنَّ سَبَب تركِ مالكٍ للأخذِ بظاهرِ هذا الخبرِ راجعٌ لِما تَقرَّر عنده مِن طهارةِ لُعابِ الكلبِ في ظاهرِ القرآن (٥)، لكن لم يُختلَف عنه أنَّه يقول بمَشروعيَّةِ غسلِ إناءِ الماءِ لهذا الحديثِ بالذَّاتِ (٦) -كما أشرنا إليه- وهو عنده للنَّدبِ، لاعتبارِه مخالفةَ ظاهرِه للأصلِ القرآنيِّ، فكان بمثابةِ الصَّارِف للأمرِ مِن الوُجوب إلى الاستحبابِ.


(١) «التنبيهات المستنبطة» للقاضي عياض السبتي (١/ ٣٨ - ٤٠).
(٢) ولعله أول من جعل احتمال تقصد تضعيف مالكٍ للحديث احتمالًا واردًا على كلامه فيما وقفتُ عليه، كما في «الجامع لمسائل المدونة (١/ ٨٥) لابن يونس، وهو من أعلام فقهاء المالكية في المغرب، انظر ترجمته في «سير أعلام النبلاء» للذهبي (١٧/ ٥٤٥)، و «الصِّلة» لابن بشكوال (١/ ٥٧٧).
(٣) كما نقله عنه ابن يونس في «الجامع لمسائل المدونة» (١/ ٨٦).
(٤) «المقدِّمات الممهِّدات» لابن رشد (١/ ٩١)، وقد ذكر احتمال تضعيف مالك الحديث غيره من أعلامِ المذهب، لكن أبطلوه، كخويز منداد في «الجامع» لابن يونس (١/ ٨٥)، والباجي في «المنتقى» (١/ ٧٣)، وأبي بكر ابن العربي في «أحكام القرآن» (٣/ ٤٤٣).
(٥) «الموافقات» (٣/ ٢١).
(٦) انظر «المنتقى» للباجي (١/ ٧٣).

<<  <  ج: ص:  >  >>