للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فظاهرٌ من كلامِ أحمدَ إنكارُ الجملةِ الأخيرة مِن الحديث فقط: «لو أنَّ النَّاس اعتزلوهم».

لكن قيل: ليس فيه تضعيفٌ للحديث! ولكن قاله منعًا لفُشوِّ ما ظاهره الخروج على الوُلاةِ (١)، خوفًا مِن قصورِ فهمِ بعضِ النَّاس له، فيُظنُّوا أنَّ الاعتزال معناه المُحاداة والخروج، فيَقعوا بذلك في مفاسد أشَدَّ؛ وهذا تخريجُ أحمد شاكر (ت ١٣٧٧ هـ) لكلامِه (٢)، وتبِعَه عليه بعضُ المُعاصِرين (٣).

وكلام أحمد يَأْبى هذا التَّأويل، فإنَّه ظاهرٌ في إنكارِ متنِه، فقد نَصَّ على كونِه مُخالفًا لمِا تَظافرت به السُّنةِ مِن الأمرِ بالسَّمع، والطَّاعة، ولزومِ الجماعةِ، وتركِ الشُّذوذ والانفرادِ؛ فأيُّ محلٍّ للاجتهاد في صرفِ كلامِه عن معناه مع نَصِّه على مُرادِه؟!

ومِمَّا يَشهد على أنَّه يُعِلُّ الحديث حقيقةً: صَريحُ ما نقله عنه تلميذُه المَرُّوذي (ت ٢٧٥ هـ) من نَبْزه للحديث بقولِه: «هو حديثٌ رَديءٌ أُرَاه، هؤلاء المعتزلة يَحتجُّون به، يعني في تَرْكِ حضورِ الجُمعة» (٤)؛ فلو كان الحديث صحيحًا عند أحمد، ما كان أبعَدَه أن يَصِفَه بالرَّديء (٥)!

نعم؛ لا يَمنع مِن تعليلِه إيَّاه أن يمسَحه مِن «مُسنَده» لمِا يخاف أيضًا مِن


(١) يقول ابن حجر في «الفتح» (١/ ٢٢٥): «وممَّن كره التحديث ببعضٍ دون بعضٍ: أحمد في الأحاديث التي ظاهرها الخروج على السلطان».
(٢) في تخريجه لـ «مسند أحمد» (٨/ ١١٨).
(٣) كبشير علي عمر في كتابه «منهج الإمام أحمد في إعلال الحديث» (٢/ ٩٤٧)، و (علي رضا) في «مجموع رسائله الحديثية» (٢/ ٣٨٢) وكاد يجزم به!
(٤) «الورع» لأحمد برواية أبي بكر المروذي (ص/٤٥)، و «المنتخب من عِلل الخلال» لابن قدامة (ص/١٦٣).
(٥) وهذا الذي فهمه أيضا جماعة من أهل العلم من كلام أحمد في هذا الحديث، كابن الجوزي في كتابه «كشف المشكل من حديث الصحيحين» (٣/ ٤٧١)، وابن القيم في «الفروسية» (ص/٢٦٦) وغيرهم.

<<  <  ج: ص:  >  >>