للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وإن كنتُ مع ذلك لا أرتاب في كونِ الكوثريِّ مُبجِّلًا لصحيحي البخاريِّ مسلمٍ، محتجًّا بأحاديثهما على المُخالف، موصيًا طَلَبة العلم والقائمين على المعاهد بالحرص على تدارسِهما والاعتناء بحفظ أحاديثِهما (١).

الفرع الثَّاني: تعثُّر الكوثريِّ في نقدِ بعض أحاديث «الصَّحيحين» جرَّاء صلابتِه المَذهبيَّة.

لقد أُطِيحَ بالكوثريِّ في أخطائه على الرُّواة والعلماء بردودٍ مُتعاقدةٍ مُتناصرةٍ، لاسِيَما في تعقُّب المُعلِّمي لكتابِه «تَأنيب الخَطيب» الغامِز بجمهرةٍ من الرُّواة بغيرِ وجهِ حَقٍّ؛ فتصدَّى المُعَلِّمِي في «التَّنكيل» للذَّب عن ذِمارِ ثلاثٍ وسبعين ومائتي ترجمةٍ من المُحدِّثينَ وغيرهم، وذلك بالَّتي هي أحسن فهمًا ومَنهجًا وتَقريعًا، فلم يجِدْ (المُؤَنِّبُ) بعدُ مِن الرَّاسِخين تَبِيعًا.

والَّذي آلَ بالكَوثَرِيِّ إلى مثلِ هذه الهنَاتِ العِلميَّة، تسرُّعه في إثباتِ ما يراه صوابًا من غير مزيد تقليبِ نظرٍ فيما هو بصدد تحقيقِه، جرَّاءَ صلابتِه في مذهبِ إمامِه أبي حنيفةَ في الفروع، وعقيدةِ أبي مَنصورٍ في الأصول، تصل أحيانًا إلى حدِّ التَّعصّب! و «العَصَبيَّة لها هُوَاة، وكَمْ جَرَّت مِن مَهازل»! (٢)

يَشهَد عليه بهذه العصبيَّةِ السِّلبيَّة أحدُ مُعجبيه مِن علماء المغرب؛ أعني به عبد الله الغُمارِيَّ، فقد قال في حقِّه: «كُنَّا نُعجَب بالكَوثريِّ، لعلِمِه وسَعةِ اطِّلاعِه، كما كُنَّا نَكره مِنه تَعصُّبَه الشَّديدَ للحَنفيَّة، تَعصُّبًا يفوق تَعصُّبَ الزَّمخشرِيِّ لمذهبِ الاعتزال، حتَّى كان يقول عنه شقيقُنا الحافظ أبو الفَيض: مَجنونُ أبي حنيفة!» (٣).


(١) انظر شيئًا من أخبار ذلك في وصيته للقائمين على جامعة الأزهر في «مقالاته» (ص/٤٨١).
(٢) «براءة أهل السنة» لبكر أبو زيد (ص/٢٧٦).
(٣) «بِدع التَّفاسير» لعبد الله الغماري (ص/١٨٠).
وهذا الوصف بدوره مُجحفٌ من الغُماريِّ غير مُنصفٍ، فإنَّ الكوثريَّ وإن بالغَ غير مرَّةٍ في الدِّفاع عن أبي حنيفة ومذهبه بنوع شططٍ على المخالف، بدافع نفسيٍّ مما كان يعتقده تنقُّصًا من مُخالفه لإمامِه ومذهب أصحابِه، فإنَّه كان يؤصِّل نظريًّا لكونِ دين الله ليس وقفًا على أحدٍ من المجتهدين، وما من أحدٍ من الفقهاء -ومنهم أبو حنيفة- إلَّا وفي كلامه ما يؤخذ منه ويُرَدُّ.

فتراه -مثلًا- يقول في مقدمة «تأنيب الخطيب» (ص/١٢) في سياق تجويزه لاتِّباع أحد المُجتهدين من أرباب المذاهب الأربعة المعروفة: « .. وأمَّا ادِّعاء أنَّ إمامَه هو المُصيب في المسائل كلِّها في نفس الأمر، فرجمٌ بالغيب .. ومَن أقررنا له بأنَّه مجتهد، فقد اعترفنا له بأنَّه يخطئ ويُصيب .. فيكون القول في أحدِ المجتهدين بأنَّه مًصيب مطلقًا، مجازفةٌ يبرأ منها أهل العلم المُنصفون، لأنَّه يؤدِّي إلى رفعه لمقام العصمة».
ولا يُقال عن هذا مجرَّد تنظير منه قد جفاه في تطبيقاته؛ لا! بل قد خالفَ الكوثريُّ إمامَه أبا حنيفة نفسَه في مسائل عدَّة، بل بَيَّن خَطأَه فيها، كردِّه عليه في «مقالاته» (ص/١٩٧) في إلزامه الوقف عند حكم القاضي به وعدم لزومه عند عدم حُكمه، وبيَّن الكوثريُّ أنَّ الدَّليل الصحيح يخالفه، وكذا في بعض المسائل الأخرى الَّتي خالفه فيها في كتابه «النُّكت الطَّريفة»، كمسألة انتباذ الخليطين، والمُزارعة.

<<  <  ج: ص:  >  >>