ثمَّ إنَّا إذْ نقرُّ بسؤالِ النَّبي صلى الله عليه وسلم للجاريةِ عن الأينيَّة في مقامِ استكشافه لدينها، فلسنا ندَّعي أنَّ الإقرار بعلوِّ الله تعالى دليل على الإيمان بمُجرَّده! ولا هذا ما رَمى إليه النَّبي صلى الله عليه وسلم مِن سؤاله ذاك.
بل نقول: إنَّ الإيمان بالعلوِّ هو (مِن) الإيمان وليس الإيمان كلَّه؛ وإنَّما استحضره صلى الله عليه وسلم في سؤالِه للجاريةِ بخاصَّة استجلابًا لأمارةِ إيمانها، بمِا سبق شرحه مِن مُلابساتٍ في جوابِ المعارضةِ الثَّانيةِ، بما لم يجري به لسانه صلى الله عليه وسلم إلَّا مرَّةً أو مرَّتين طولَ حياتِه لاعتبارٍ ضيِّق.
فما أرى مِن الكياسة اختبارُ العامَّة بمثلِ هذا السُّؤال، فضلًا عن أن يكون سُنَّة! -كما قد يعتقده بعضُ المُتنطِّعة- بل هو بباب الكراهة والتَّحريم ألصق إن آلَ أمره إلى الخصومات وانفكاكِ الجماعات، في زمنٍ صار النَّاس ينسلخون فيه مِن دين الله سِراعًا!
والأصل في مثل هذه المقامات -كما يقرِّره ابن تيميَّة- أن يُمنع العامَّة عن الخوضِ في التَّفاصيل الَّتي تُوقِع بينهم الفُرقةَ والتَّناحر، وجمعُهم على الجُمَلِ الثَّابتة بالنصِّ والإجماع، فإنَّ الفُرقةَ والاختلاف مِن أعظم ما نَهى الله عنه ورسولُه (١)؛ والله أعلم.
(١) انظر «مجموع الفتاوى» (١٢/ ٢٣٧)، و «الاستقامة» (١/ ١٩٢) لابن تيمية.