للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

تموتوا» (١)، فهذا هو مُراد عائشة رضي الله عنها حينَ استدلالِها بالآيةِ على نَفيِ رؤيةِ النَّبي صلى الله عليه وسلم ربَّه ليلةَ المعراجِ، غايةُ ما في ذلك أنَّها فهِمت مِن الآيةِ عدمَ قدرةِ أبصارِنا على رؤيتِه سبحانه في الدُّنيا، ولم يُنقَل عن أحدٍ من الصَّحابة رضي الله عنهم مِن طريقٍ صحيحٍ ولا ضعيفٍ أنَّه أراد بذلك نفيَ الرُّؤية في الآخرة (٢).

وبهذا ينتفي التَّعارض المُتوهَّم بين تلك الآيةِ على قولِ عائشة ومَن وافقها (٣)، وباقي الآياتِ الصَّريحةِ على ثبوتِ الرُّؤية في الآخرة.

وثاني القَوْلين في الآية: أنَّ الإدراكَ فيها هو بمعنى إحاطةِ الرَّائي بربِّه عز وجل، وهذا ما جَرت عليه أقوال جلَّةٍ مِن الصَّحابة والأئمَّة بعدهم، تراه -مثلًا- في تفسيرِ ابن عبَّاس رضي الله عنه للآية: «لا يحيطُ بَصرُ أحدٍ بالملِكِ»، وقولِ عطيَّة العوفي: «ينظرون إلى الله، ولا تحيط أبصارهم به مِن عظمتِه، وبصرُه يحيط بهم» (٤).

وقد قرَّر ابن تيميَّة وجهَ الاستدلال من الآيةِ على مسألةِ الرُّؤية أحسنَ تقريرٍ وألطفَه في قوله:

«أنا ألتزِمُ أنَّه لا يَحتجُّ مُبطِلٌ بآيةٍ أو حديثٍ صحيحٍ على باطلِه، إلَّا وفي ذلك الدَّليل ما يدلُّ على نقيضِ قوِله! فمنها هذه الآية، وهي على جواز الرُّؤية أدلُّ منها على امتناعها، فإنَّ الله سبحانه إنَّما ذكرها في سياقِ التَّمدح، ومَعلوم أنَّ المدحَ إنَّما يكون بالأوصافِ الثُّبوتية، وأمَّا العَدم المحض فليس بكمالٍ ولا يُمدح به.


(١) أخرجه النسائي في «السنن الكبرى» (ك: النعوت، باب: المعاقاة والعقوبة، رقم: ٧٧١٦)، وابن ماجه في «السنن» (ك: الفتن، باب: فتنة الدجال، وخروج عيسى ابن مريم، وخروج يأجوج، ومأجوج، رقم: ٤٠٧٧)، وصحَّحه الضِّياء المقدسي في «المختارة» (٨/ ٢٦٤)، والألباني في «صحيح الجامع» (٤٠٧٦).
(٢) «معارج القبول» للحَكمي (١/ ٣٦١)؛، فلا وجهَ لنصبِ الخلاف بين الصَّحابة رضي الله عنهم في ذلك كما أراد أن يوهمه (هاشم معروف)!
(٣) وهذا مذهب إسماعيل ابن عليَّة، وهشام بن عبيد الله الرازي، ونعيم بن حمَّاد، انظر «شرح اصول اعتقاد أهل السنة» للالكائي (٣/ ٥٧٧)، وبه أخذ أحمد بن حنبل في «ردِّه على الجهمية» (ص/٧٨)، وعثمان الدرامي في «نقض المريسي» (٢/ ٧٣٨)، وأبو الحسين الملطي في «التنبيه والرد» (ص/٦٠).
(٤) انظر القولين في «جامع البيان» للطبري (٩/ ٤٥٧ - ٤٥٩).

<<  <  ج: ص:  >  >>