للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بقيدٍ، كان النَّفي مُنصَبًّا على القيدِ لا المُقيَّد، وأنَّ نفيَ وصفٍ خاصٍّ لمعنى عامٍّ، يستلزم إثباتَ ذلك العامِّ (١).

وأمَّا استدلال المُعترضِ بقولِه تعالى: {لَن تَرَانِي}، وأنَّ (لن) تفيد التَّأبيد:

فالآية كسابقتها حُجَّة عليهم لا لهم! فإنَّ الاستدلال بها على ثبوتِ الرُّؤيةِ من عِدَّة وجوهٍ:

الوجه الأوَّل: أنَّه لا يُظَنُّ بكليمِ الله ورسوله الكريم، وأعلمِ النَّاس بربِّه في وقتِه، أن يسأل اللهَ ما لا يجوز عليه، بل هذا مِن أعظمِ المُحال، بدليل:

الثَّاني: أنَّ الله تعالى لم يُنكِر عليه سؤالَه، في حين أنَّه لمَّا سأله نوح عليه السلام نجاةَ ابنِه، أنكرَ عليه سؤالَه، وزجَره إذ سأَله المُحالَ بقولِه: {فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [هود: ٤٦].

الثَّالث: أنَّه تعالى إنَّما قال: {لَن تَرَانِي}، ولم يقُل: إنَّي لا أُرَى، أو لا يجوز رؤيتي، أو لستُ بمَرئيٍّ.

والفرق بين الجوابين ظاهر، مَثَّلَ له الفخر الرَّازي (ت ٦٠٦ هـ): بأنَّ مَن كان في كمِّه حَجر، فظنَّه رجلٌ طعامًا، فقال له: أطعمنيه، فالجواب الصَّحيح أن يقول له: إنَّه لا يُؤكل، أمَّا إذا كان طعامًا صحَّ أن يقول: إنَّك لن تأكله (٢)؛ فالآية -على ذلك- تدلُّ على أنَّه سبحانه مَرئيٌّ، ولكنَّ موسى عليه السلام لا تحتمل قواه رؤيته في هذه الدَّار؛ يوضِّحه:

الوجه الرَّابع: قوله تعالى له: {وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي} [الأعراف: ١٤٣]، فالله أعلَمَه أنَّ الجبَلَ مع قُوَّتِه وصلابتِه لا يثبُت للتَّجلي في هذه الدَّار، فكيف بالبَشر الَّذي خُلق مِن ضعف؟! ولا شكَّ أنَّ الله قادر على أن يجعل الجبلَ مستقرًّا، وقد عَلَّق به الرُّؤية، ولو كانت مُحالًا لكان


(١) «تفسير المنار» (٩/ ١١٩).
(٢) «معالم أصول الدين» للرازي (ص/٧٨)

<<  <  ج: ص:  >  >>