للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فهذا عبد الله رضي الله عنهوهو ابنه، قد خفِيَ عليه استصحابُ أبيه للكفر! فما كان إلَّا أن «حَملَ أمرَ أبيه على ظاهر الإسلام، ولدفعِ العارِ عنه وعن عشيرتِه، فأظهرَ الرَّغبةَ في صلاةِ النَّبي صلى الله عليه وسلم، ووقعت إجابتُه إلى سؤالِه على حسبِ ما ظَهر مِن حالِه، إلى أن كشَفَ الله الغطاء عن ذلك» (١)؛ هذا مع كونِه أقربَ النَّاس إليه لحالِ البُنُوَّة، فكيف الظَّنُّ بغيرِه مِن قومِه ممَّن هم أبعدَ منه عنه، ممَّن لا يعلم عنه إلَّا ظاهره؟! لم يكُن هؤلاء إلَّا ليحسِبوه واحدًا مِن أفراد المسلمين.

وبعد هذا البيان، يبقى لنا الإشكال المُتعلِّقُ بآخر الآيةِ: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} [التوبة: ٨٠]: فالمعلوم ضرورةً من الدِّين: أنَّ مَن ثَبت كفرُه لا يُستغفَر له، قولًا واحدًا، وبه تَشبَّث مَن حَصَر الآية في التَّسويةِ المستلزمة للنَّهيِ عن الفعلِ البتَّة.

وقد وَرَدت في بعضِ جواباتِ أهل العلمِ ما يحلُّ هذا الإشكال، مِن ذلك ما تراه في قول ابن حجر: «في بقيَّة هذهِ الآية من التَّصريح بأنَّهم كفروا بالله ورسوله ما يدلُّ على أنَّ نزولَ ذلك وقع مُتراخيًا عن القصَّة، ولعلَّ الَّذي نَزَل أوَّلًا وتمسَّك النَّبي صلى الله عليه وسلم به، قولُه تعالى: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ}، إلى هنا خاصَّة، ولذلك اقتصرَ في جوابِ عمر على التَّخييرِ وعلى ذكرِ السَّبعين (٢).

فلمَّا وقعت القَّصة المذكورة، كشَفَ الله عنهم الغطاء، وفضحَهم على رؤوسِ الملَأ، ونادَى عليهم بأنَّهم كفروا بالله ورسولِه، ولَعلَّ هذا هو السِّر في اقتصارِ البخاريِّ في التَّرجمة مِن هذه الآيةِ على هذا القدرِ إلى قوله: {فَلَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ}، ولم يقع في شيء من نُسخِ كتابِه تكميل الآية، كما جرت به العادة مِن اختلاف الرُّواة عنه في ذلك ..


(١) «عمدة القاري» للعيني (١٨/ ٢٧٣).
(٢) معنى ذلك أنه صلى الله عليه وسلم ما دام اقتصر على ذلك الجواب، ولم يجب عمر عن التعليل الذي في آخر الآية، دلَّ ذلك أنَّها لم تنزل بعدُ، وإلا لبقي الإشكال قائمًا لم يزل بعدُ لنقصان جوابه، ولم يكن له صلى الله عليه وسلم عذر في الاستغفار بعد نزولها.

<<  <  ج: ص:  >  >>