للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فقيل لهم: قولوا حِطَّة، أي: حُطَّ عنَّا رَبَّنا ذنوبنَا، ولا تُعذِّبنا بما فيه أسرَفنا، لكنَّهم بدلَ ذلك استهزءوا بموسى عليه السلام، وقالوا: «ما يَشاء موسى أن يلعبَ بنا إلَّا لعِب بناَ؟ حِطَّة، حِطَّة، أيُّ شيءٍ حِطَّة؟! وقال بعضهم لبعض: حِنطة!» (١).

و «الحِنطة»: القَمح، و «حَبَّة في شَعرة»: تَفسير لها، وفي بعضِ الرِّواياتِ: «حِطَة» دون «حِنطة» (٢)،

أي قالوا هذه الكلمةَ بعينِها، وزادوا عليها مُستهزئين: «الحَبَّة في الشَّعرة» (٣)، ضَمُّوا إليه هذا الكلامَ الخاليَ عن الفائدةِ، تتميمًا للاستهزاءِ، وزيادةً في العُتوِّ (٤).

فهم قد بدَّلوا السُّجودَ بالزَّحف، واستبدلوا تلك الكلمةَ الضَّارِعةَ الخاشِعةَ، بكلمةٍ أخرى قريبةِ اللَّفظ، لكن بمعنى آخرَ مُغاير، فبدَل أن يَتوجَّهوا إلى الله تعالى بالضَّراعة، تَوجَّهوا إليه بطلبِ القُوتِ! و «أُمِروا بالإخلاصِ لله نظرًا إلى حياةِ قلوبِهم، فطَلبوا الِحنطةَ نظرًا إلى حياةِ جُسومِهم!» (٥).

وفي هذا مِن التَّلاعب بدين الله تعالى والاستهزاءِ بأوامِره والعدولِ عن إرضاءِه إلى الإعلانِ بما يُرضي أهواءَهم، ويُشبع شهواتَ بطونهم، ما سطَّرَه الوَحيُ عنهم فضحًا لقبيحِ أخلاقِهم إلى يومِ القيامة.


(١) «جامع البيان» للطبري (١/ ٧٢٨).
(٢) جاء في «مطالع الأنوار» للقاضي عياض (٢/ ٢٧٥): «رواه المروزي: حِطَّة، بدلا من: حِنْطَة، وبالنُّون أصوب؛ لأنَّهم بدَّلوا اللَّفظ بزيادة النُّون، كما روي من قولهم: حِطى سمهاثا، معناه: حنطة حمراء».
يقول ابن الدماميني في كتابه «مصابيح الجامع» (٨/ ١٥٥) متعقبا هذا القول:

«إذا حملوا القول الَّذي أُمروا به على غير المراد منه، وعَنوا به ما يحملهم عليه استهزاؤهم وجرأتهم، وزادوا مع ذلك لفظًا آخر من تلقاء نفوسهم يُبين ما زادوه من المعنى المخترع صِدْق التبديل، ولا شك أن قولهم: حِطَّة، حَبَّة في شعرة، هو غير القول الذي أُمروا به، فقد بدَّلوا، وبذلك يظهر أن ليس لفظ (حِنطة) -بالنون- أصوبَ من (حِطَّة) بدونها».
(٣) أي: حبة حنطة في شعرة الحطة، وهو السفاء، وهو شوك الحنطة، انظر «التوضيح» لابن الملقن (٢٢/ ٣٤).
(٤) انظر «الكواكب الدراري» للكرماني (١٧/ ٨)، و «طرح التثريب» للعراقي (٨/ ١٦٧).
(٥) «تراث أبي الحسن الحرالي المراكشي» (ص/٢٢٥).

<<  <  ج: ص:  >  >>