للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يقول البِقاعيُّ (ت ٨٨٥ هـ): «ذَكَر تعالى عُدولَهم عن كلِّ ذلك، واشتغالهَم ببطونِهم وعاجلِ دنياهم، فطلبوا طعامَ بطونِهم الَّتي قد فرغ منها التَّقدير، وأظهَر لهم الغَناء عنها في حالِ التِّيه، بإنزال المَنِّ والسَّلوى، إظهارًا لبلادةِ طباعِهم، وغلبةِ حُبِّ العاجلةِ عليهم» (١).

فتحريفُ القولِ عن مواضعِه سِمَة لا تُستغرب مِن يَهود، والله أخبرَ أنَّهم {مِّنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ} [النساء: ٤٦]، وكانوا يَأتون النَّبي صلى الله عليه وسلم يقولون: رَاعِنا، يعنونَ الرُّعونةَ، لَيًّا بألسنتِهم، وإذا جاءوه حَيَّوه بما لم يُحَيِّه به الله، وقالوا: السَّام عليك يا محمَّد، يُوهِمون بسريعِ اللَّفظ أنَّهم سَلَّموا (٢).

فما يُستغربُ بعدُ أن يُحرِّفوا لفظَ أمرِه كما في خَبر أبي هريرة؟!

وأمَّا دعوى المُنكِر في المعارضةِ الثَّانية: أنَّ تحريفَ لفظِ (حِطَّة) إلى لفظِ (حِنطة) لا يُتأتَّى إلَّا بلِسانٍ عَربي مُبين، ولسان بني إسرائيل عبرانيٌّ، فجواب ذلك مِن وجوه:

أوَّلها: إن كان قصدُ المعترضِ بالعبرانيَّةِ اللُّغةَ العِبريَّة بما نعرفه اليوم: فإنَّها لم تكُن لسانَ قومِ موسى عليه السلام أصلًا على الصَّحيحِ مِن كلام المختصِّين في علمِ اللُّغاتِ العَتيقة؛ فإنَّ أولئك الإسرائيليِّين إن كانوا «يحتفظون بلغةٍ لأنفسِهم إلى جانبِ المصريَّة الَّتي هي لغةُ المَحَلِّ الَّذي سَكنوه لعدَّةِ قرونٍ، فإنَّ هذه اللُّغة الخاصَّة لا يُمكن أن تكون هي اللُّغة العِبريَّة المعروفةَ لدينا، فهذه لم تتبلوَر إلَّا بعدَ وفاةِ موسى بحوالي أربعةِ قرون»! (٣).


(١) «نظم الدرر في تناسب الآيات والسور» (١/ ٤٠٠).
(٢) كما في حديث عائشة في البخاري (ك: الجهاد والسير، باب: الدعاء على المشركين بالهزيمة والزلزلة، رقم: ٢٩٣٥)، وحديث ابن عمر في مسلم (ك: الآداب، باب النهي عن ابتداء أهل الكتاب بالسلام وكيف يرد عليهم، رقم: ٢١٦٤).
(٣) «لغات الرسل وأصول الرسالات» لمجموعة من الباحثين الأكاديميين (ص/٤٩).

<<  <  ج: ص:  >  >>