للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

إنَّ المُوازنةَ الصَّحيحةَ في الإشكالات، تقتضي التَّمييزَ بين الأصلِ والإشكالِ أوَّلًا، «فإنْ وَرَد عليه إشكالٌ جزئيٌّ على أصلٍ كليٍّ مُتقرِّر لديه، فمِن العقل أن لا يهدم الأصلَ لوجودِ إشكالٍ عارضٍ عليه .. بل عليه أنْ يحفظَ الأصلَ كما هو، ويُبقي هذا الإشكالَ شُبهةً يَبحثُ عن حَلِّها؛ فإنَّه منَ نَظَر إلى بناءٍ شاهقٍ مُتماسك، فوَجَد فيه خُدوشًا ما، أو رُسوماتٍ لم يفهم الحاجةَ منها، فليس مِن العقلِ أن يُلغِيَ البناءَ كلَّه، نظرًا لوجود هذه المَلحوظات الجزئيَّة!» (١) بل يجعلُ هذه ضمنَ حِكمةٍ مِعماريَّةٍ جماليَّةٍ ما، وإن كان هو يجهلُها.

فمِن أمثلةِ ما ادُّعي فيه الفَساد مِن المُحكمات، بدعوى الإبقاءِ على شمول مَعنى المُشتبِه:

ما تراه -مثلًا- مِن ردِّ القاضي عبد الجبَّار (ت ٤١٥ هـ) لمعنى «الزِّيادة» في قولِه تعالى: {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس: ٢٦]، بقولِه: «ربَّما تَعلَّق به مَن يقول بجوازِ الرُّؤيةِ على الله، ويروي فيه ما يُقوِّي تأويلَه، وليس للآيةِ ظاهرٌ، لأنَّه لم يَذكُر تلك الزِّيادة! فمِن أين أنَّ المُراد ما قالوه؟! .. » (٢).

فالسَّببُ الأبرز الَّذي دَعا القاضي قولَ هذه البائقة: اعتبارُه العقلَ المُجرَّد مِعيارًا أوَّليًّا للتَّمييز بين ما هو مُحكَمٌ ومُتشابِه، لا الشَّرعَ نفسَه؛ وهنا مَكمَنُ الخَللِ، ولذا تراه يقول بصريحِ العبارة: «يجبُ أن يُرتَّب المُحكَم والمُتشابه جميعًا على أدلَّةِ العقول» (٣).

المَعلم الخامس: التَّفتيش في الإسنادِ عن مُوجِب الخَلَل عند الرُّكون إلى فسادِ المتن.

ما استشكَل المسلمُ معناه مِن الأحاديث الصَّحيحة، أو ظَنَّه مُعارضًا لأصلٍ آخر، فإنَّه لا يجوز له رَدُّه حتَّى يستيقن فسادَه، وكمالُ ذلك أن يجدَ في نَقَلتِه مَن


(١) مقال بعنوان: «سيد الضمانات الفكرية» لـ د. فهد العجلان، مجلة البيان العدد ٣١٣ رمضان ١٤٣٤ هـ. بتصرف يسير.
(٢) «متشابه القرآن» للقاضي عبد الجبار المعتزلي (ص/٣٦١).
(٣) «متشابه القرآن» للقاضي عبد الجبار المعتزلي (ص/٧ - ٨).

<<  <  ج: ص:  >  >>