للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أنفسِهم (١)، ولسنا نُنكِر أنَّ الآية ظنيَّة الدَّلالة، تحتمل كِلا الوَجهين؛ لكنَّ القواعد العلميَّة تقتضي تصحيحَ أحدِهما بالمرجِّحاتِ المُعتبرَة أصوليًّا، وباستعمالِ هذه يَتبيَّن رجحانُ قولِ الجمهورِ في كونِ قتالِ الملائكةِ كان بأمرِ الله تعالى، وقولُهم بعَودِ الأمرِ في الآيةِ إلى الملائكةِ يعتمد على أصلين:

الأوَّل: دلالةُ الأحاديث على ذلك نَصًّا:

وهذه تَلقَّاها أهلُ الحديثِ بالقَبول، يكفي منها ما أخرجه الشَّيخان ممَّا سبق سَوقَه، ومَعلوم من علمِ الأصولِ أنَّ نصوص السُّنة مُبيِّنة لمُجملِ الآيات، والنَّص إذا وَرَد لم يُعارَض بالمحتملاتِ.

الثَّاني: دلالة السِّياق القرآنيِّ نفسه على ذلك:

وذلك أنَّ الله تعالى أخبرَ أنَّه أنزلَ الملائكة في بدرٍ مُردِفين: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ} [الأنفال: ٩]، أي: أُنزِلوا فرقةً بعد فِرقةٍ (٢)، وهذا تَعبير يتضَمَّن حمولةً عسكريَّة واضحة! فكأنَّهم مجموعاتُ مآزَرةٍ، تأتي الواحدة تلوَ الأخرى، كما المعهود مِن الجيوش في الحروب، فجاء عَدد الملائكةِ مُساويًا لعددِ المشركين، وكان الصَّحابة زيادة.

ولو كانت الغاية مُجرَّد التَّسكين لقلوبِ مَن قاتلَ في بدرٍ، لمَا احتِيجَ إلى كلِّ هذا الإردافِ والتَّتابع بهذا الشَّكلِ مِن هذه الأعدادِ الكثيرة.

ثمَّ المعلوم من حال الحروب، أنَّ مَعنويَّات الجنودِ إنَّما تَتقوَّى في حمأةِ المعارك إذا علِموا بالتحاقِ فُرقٍ أخرى مِن حُلفاءِهم! تخفيفًا عنهم لضغطِ المعركة، وتحقيقًا للتَّفوُّقِ المَّاديِّ على العَدوِّ، ومِن ثَمَّ تزدادُ الرَّغبة في الإجهازِ على العَدوِّ، وتُشحذُ الهِمَم للظَّفر منه بالنَّصر.


(١) نسبَ القرطبي في «جامع أحكام القرآن» (٧/ ٣٧٨) كون الملائكة هي المعينة بالأمر بالضرب في الآية إلى الجمهور، وهو الذي اختاره النووي في شرحه لمسلم (٨/ ١٠)، وابن كثير في «تفسيره» (٤/ ٢٥)، وأبو حيان في «البحر المحيط» (٥/ ٢٨٥)، وذهب قلة من المفسرين إلى أن المعني به هم المؤمنون، كالفخر الرازي في «تفسيره» (١٥/ ٤٦٠)، وجعله ابن عطية في «المحرر الوجيز» (٢/ ٥٠٨) محتملًا لكليهما.
(٢) «معاني القرآن وإعرابه» للزجاج (٢/ ٤٠٣).

<<  <  ج: ص:  >  >>