للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فقطع سبحانه وتعالى التَّخاصمَ بينهما، وبيَّن أنَّ الجنَّة رحمتُه، أي: نعمتُه على الخلق، .. وأنَّ النَّارَ عذابه النَّاشئ عن غضبه، وإرادةِ انتقامِه جلَّ وعلا» (١).

والمعنى الثَّاني: أنَّ المحاجَّة والتَّخاصُمَ بينهما ليسَ للمغالبة، بل بمعنى حكاية كلٍّ منهما بما اختُصَّت به على وجهِ الشِّكاية (٢)، كأنَّ كلَّ واحدةٍ منهما تُنكِر ما ابتُليَت به.

وهذا المعنى ما أميلُ إلى كونِه الأرجح -إن شاء الله تعالى- لسياق الحديث؛ فانظر كيف ردَّ عليهما الله تعالى فقال للجنَّة: «أنتِ رحمتي»، وللنَّار: «أنتِ عذابي»! وكأنَّ فيه إفحامًا لكلٍّ منهما بما اقتضته مشيئته سبحانه وتعالى، بألَّا مَشيئة لهما إزاء مَشيئته.

وفي تقريرِ هذا المعنى، يقول الكُورَانيُّ (ت ٨٩٣ هـ) في مَعرضِ ردِّه على أربابِ المَعنى الأوَّل: «إنَّ الخصام هنا مَجاز عن الشِّكاية، ألا تَرى إلى قول كلِّ واحدةٍ: (ما لها لا يدخلها إلَّا كذا -قول الجنة- من الضُّعفاء والسَّقط)، وقول النَّار: (ما لي لا يدخلني إلَّا المتكبِّرون والجبَّارون)؟ وهل يُعقل أن تفتخِر بمثلِ هذه الأشياء؟! وهل يُقال في معرضِ الافتخار: (ما لي)؟! ألا ترى قول سليمان: {مَالِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ} [النمل: ٢٠]، كأنَّه يَرى نقصًا في مُلكِه! .. فقال الله للجنَّة: (أنتِ رحمتي، وللنَّار: أنت عذابي) أي: أنتما تحت مَشيئتي لا إرادة لكما» (٣).

وأمَّا استنكارُ المعترِض تنكُّرَ الجنَّة في الحديثِ لصِفاتِ مَن دخَلها، بكونِهم سَقطَ (٤) النَّاس وضعفائِهم .. إلخ:

فيُقال: إنَّ شكايةَ الجنَّة مِن صِفةِ ساكنِيها هو باعتبارِ الأغلب لا الكُلِّ، فلا يدخل في الشَّكوى الأنبياء، والمُرسلون، والملوك العادلة، والنُّبلاء مِن أهل


(١) «طرح التثريب» (٨/ ١٧٨).
(٢) انظر هذا المعنى في «الكاشف عن حقائق السنن» للطيبي (١١/ ٣٥٩٦)، و «إكمال إكمال المعلم» للأبيِّ المالكي (٧/ ٢١٧).
(٣) «الكوثر الجاري» للكوراني (١١/ ٢٥٠).
(٤) قال ابن هبيرة في كتابه «الإفصاح» (٧/ ٢٢٢): «سُمُّوا سَقطًا على معنى أنَّهم لا يُكرمون بصدر المجالس، ولا يُفتقدون إذا غابوا، ولا يعُرفون إذا حضروا، وهذا هو الأغلب من صفة أهل الجنَّة».

<<  <  ج: ص:  >  >>