للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

والعقل يجوِّز، والظَّواهر قاضيةٌ بوقوع ما صَوَّره العقل، وقد وَقع مثل هذا قَطعًا في الدُّنيا، كتسليمِ الشَّجر، وتسبيحِ الحَصا في كفِّ النَّبي صلى الله عليه وسلم وفي يدِ أصحابه.

ولو فُتِح باب المَجاز والعُدول عن الظَّواهر في تفاصيلِ المقالة، لاتَّسع الخرق، وضَلَّ كثير مِن الخلق عن الحقِّ» (١).

فالحاصل أنَّ ما في هذه النُّصوصِ من المحاجَّة جاريةٌ على التَّحقيق، وعلى فَرضِ احتمالِ الآية لكلا الحقيقةِ والمجاز، فقد جاءت السُّنة تُعيِّن المُرادَ منهما، فوَجب الأخذُ بها مُبيِّنةً، وطرح أيِّ اجتهادٍ عداها.

ومع كونِ «جُلِّ المفسِّرين على أنَّ القولَ في الآيةِ حقيقةٌ» (٢)، فقد نَحى بعضُ المفسِّرين إلى تأويلِ الآية على المجاز، فنَفوا حقيقةَ الحوارِ بين الله تعالى والنَّار (٣)، وآخرونَ منهم توقَّفوا في ترجيحِ المُراد (٤)، إلَّا أنَّهم لم يُقدِموا على ما أقدمَ عليه هؤلاء المُحدَثونَ من الغَمزِ في الحديثِ! إذ كانوا أعقلَ وأكثر اتِّساقًا مِن أن يُنكروا لفظَ خَبرٍ مثلُه كائنٌ في كتابِ الله.

أمَّا قول المُنكرِ في المعارضة السَّادسة أنَّ في الحديث تبرُّمَ الجنَّة مِمَّن فيها من الضَّعفة .. إلخ، فجوابه:

أنَّ المَفهومَ مِن ظاهرِ الحديث معنَيان، لا أرى الحقَّ يحيد عن أحدِهما:

المعنى الأوَّل: أنَّ الجنَّة والنَّار تخاصَمتا في الأفضلِ منهما، فأقامَت كلُّ واحدةٍ منهما الحجَّة على أفضليَّتها.

وهذا المعنى أبان عنه أبو زرعة العِراقيُّ (ت ٨٢٦ هـ) بقوله: «الظَّاهر أنَّ المُراد بتحاجُج الجنَّة والنَّار: تخاصمُهما في الأفضلِ منهما، وإقامةُ كلٍّ منهما الحجَّة على أفضليَّتها، فاحتجَّت النَّار بقهرِها للمُتكبِّرين والمتجبِّرين، واحتجَّت الجنَّة بكونِها مَأوى الضُّعفاء في الدُّنيا، عوَّضهم الله تعالى عن ضعفهم الجنَّة،


(١) «الانتصاف فيما تضمنه الكشاف ـ المطبوع بهامش الكشاف للزمخشري» (٤/ ٣٨٨).
(٢) «غرائب التفسير وعجائب التأويل» للكرماني (٢/ ١١٣٣).
(٣) انظر مثلًا «الكشاف» للزمخشري (٤/ ٣٩٢)، و «أنوار التنزيل» للبيضاوي (٥/ ٢٣٠).
(٤) انظر مثلًا «البحر المحيط» لأبي حيان (٨/ ١٢٦)، و «التحرير والتنوير» لابن عاشور (١٠/ ١٣١).

<<  <  ج: ص:  >  >>