للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

هكذا ارتآ بعض المعاصرين التَّوفيق بين الآية وما فهموه مِن الحديث، فأوقعهم هذا التَّفسير الخاطِئ في الخلطِ بين الغَيب المطلقِ المَقصور علمُه على الله تعالى وحدَه -المتمثِّل في مفاتح الغيب الخمس المذكورة في الحديث- وبين علمِ الله المحيط بعالم الشَّهادة مِن المَوجودات، والَّتي يُدرك بعضَه علمُ البَشر، بما يعلمونه مِن سننِ الكون والحياة! مع أنَّ الله تعالى قد فصل بين القضِيَّتين بجلاءٍ في قوله تعالى: {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَاّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلَاّ يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَاّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} [الأنعام: ٥٩].

فقد دَلَّت هذه الآية على أنَّ مفاتح الغيبِ لا يعلمُها أحدٌ سِواه، وكذلك جملة ما في البرِّ والبَحر لا يعلمُ جميعَه أحدٌ سِواه، لكن لأنَّه مِن علمِ الشَّهادةِ، فقد يحصُل العلمُ ببعضِه لبعضِ خلقِه، مِمَّن توفَّرت لهم أسباب معرفته.

والنَّبي صلى الله عليه وسلم قد أخبر أنَّ مفاتحَ الغيب المقصور علمُها على الله في هذه الآية هي الخمس الواردة في آية سورة لقمان، بتحديدٍ ظاهرٍ لا لبسَ فيه.

فعلى هذا يكون العلمُ الأوَّل في الآية {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَاّ هُوَ}: مِن الغيبِ المطلق المتعلِّق بالله سبحانه دون من سواه.

والعلم الثَّاني فيها {وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ... } إلى آخرها: مِن الغَيبِ النِّسبيِّ الَّذي يمكن للمخلوقِ معرفتُه دون إحاطةٍ تامَّة، فهو علم شهادةٍ لِمن علِمه، وغيبًا لمِن فَقَدَ أسبابَ معرفتِه (١).

إذا تبيَّن هذا الفرق بين هذين العِلْمَين، فهل يُمكِن أن يعلمَ البَشر شيئًا مِن مَفاتحِ الغيب؟ والجواب أن يُقال:

إنَّ كلمةَ العلماء مُجمعة على أنَّ مفاتح الغيب الخمسة لا يَعلمها إلَّا الله سبحانه، فلا يخضع أيٌّ منها في كُليَّاتِها وجُزئيَّاتها للسُّنَنِ الكونيَّة المطَّردة في عالم الشَّهادة، ولا يمكن لمخلوقٍ أن يَعلم أيَّ شيءٍ منها اعتمادًا على قوانين الاستكشافِ لهذا الكون المَنظور.


(١) انظر «علم الغيب في الشريعة الإسلامية» لـ د. أحمد الغنيمان (ص/٣٥ - ٣٦).

<<  <  ج: ص:  >  >>